يوميات أستاذ من درجة ضابط..انطباعات أسبوع الاستقبال

..دشن أسبوع الإستقبال بمركز"مازغان".. بعقد لقــاء تواصلي بالمـدرج بين الطاقم الإداري والتربــوي والأسـاتذة المتدربين من مختلف المسالك والشعـب.. كانت وقتهــا المقاعد ملئـى بالمتدربين، وحتـى الممــرات الوسطى والجانبيــة والخلفيـة اكتسحتها الكراسي والأقــدام  الواقفـة المنتصبــة كأعمدة ضوء .. كل الممــرات كانت مغلقــة تمامــا .. حتى بوابـة المدرج كانت حبلـى بالأقــدام الآتية في آخــر لحظـة .. كان المشهــد يوحي أن الأمر يتعلــق بـعرض آخر ما جادت بـه سينمـا هوليــود .. أو بجحافل من المريدين يترقبــون بلهفة إطلالـة شيخهـم بين كل لحظـة وحيــن ..كانت الوجـوه أشكال وألــوان .. شباب لا يزال في ضفاف العشرينات من العمر وآخـرون يسبحون في شطئــان الثلاثينات وحتى الأربعينات .. في المنصـة اصطف مجموعة من الأساتذة المكونين يتوسطهم مدير المركز ..كان يبدو جليا حالة الإرتباك التي طالت عملية الإعداد لهذا اليوم الإفتتاحي، حتى أن بعض الطاولات والمقاعد المكسرة تم إخراجها من المدرج في آخر لحظة من أجل إعداد المنصة .. في الواجهة الأخرى، فقد إختلفت تقاسيــم وتجاعيـد المتدربين ..نظراتهـم كانت مــرآة تعكــس خلفها مغربـا يبـدو كمـدارة ممتـدة الأطراف تتقاطـع فيها سبـل التنـوع وطرق الإختــلاف .. لكن جمعتهـم بذلة موحـدة زرقــاء داكنة وأقمصة زرقاء مفتوحة وربطات عنــق كما جمعتهم رايــة الوطن ..

كان اللون الأزرق سيـد الزمان والمكان ..وكانت الصــورة المتلاعبـة كأمواج شاطئ مازغان .. توحـــي أنك أمــــام فــوج جديد من مفتشي أو ضباط الشرطـة .. كان "سليم" جــزءا من هـذه الزحمـة الخانقـة .. كان يقــف في الخلف كالصنـم .. لم يكن له مجال حتى لتغييــر حركة قدميه أو حتى الجلـوس وسط غابة من الأقــدام تحاصره من كل صـوب أو اتجـاه .. كــان غريبــا وهو  يقــف كغيــره وعينــاه مشدودتان إلى ما سينبعـث من المنصة من أصــوات .. كــان يحملــق بعينيـه يمينا وشمالا .. وكأنــه سمكـة سلمـون تسبح بأريحية وسط بحيــرات من الهيـام ..

راودتــه وقتها "نوستالجيا" الزمن الراحل، واستحضر يوميات التدريب الأساسي برحاب الأكاديمية، في مشهد بـــدا له كمرآة عاكسة لفضاءين متباينين ..فضاء "الأستاذ(ة) المتدرب(ة)" و فضاء" الشرطي(ة) المتدرب(ة)".. فضاء أول يعيش على وقع الارتباك والإهمال وقلة العناية و الاهتمام .. وفضاء ثان تتوافر فيه شروط التدريب من بنيات محترمة وتجهيزات لائقة ونظام وانضباط واهتمام وماء وخضرة وجمال ...كان وقتها بين صورتين اثنتين .. صــورة الضابط التـي تلاشت في غفلـة من الزمـن كما يتلاشى جبل الجليد تحت لهب الشمس الحارقة ... وصــورة الأستـاذ التي  ما فتئــت تتكون معالمها الأولـى وكأنها جنين في طـور التشكـل بعد عقـم طويــل .. لم يصـدق وقتهـا مـاذا حدث ؟ وكيف حدث ؟

لـم يكن ملزما بالنبــش في الحفريـات بحثا عن جواب قد يــجدي و قد لا يجـدي .. بعـد أن قضـت أحلامه الكاسحة أيـاما وليالي أمام محــراب التوسل والمناجــاة .. متسلحة بحسام إرادة جارفة آمنـت بإمكانية الانعتــاق والتحرر من طـوق الأصفـاد ..  ملاده الوحيــد والأوحد .. كان الأستاذ المتدرب " رامـي" الشقيق الأصغر لصديقه " شادي" أستاذ الاجتماعيات.. سخرية القدر جمعته برامي في هذا المركز بعد أن جمعهما مركز عروس الشمال "طنجـة" في الإختبـــارات الشفوية .. بل وستجمعهما معا نفس الغرفـة داخل رحاب الداخليـة التي نخرتها فيروسات الرتابة والاكتئـاب .. بين سريريـن  متهالكين هاجمتهما الشيخوخة مبكــرا لا يفصل بينهما ســـوى ممر صغيـر لا يتعدى النصف متـر وكأنك في زقاق من زقاقات فـاس البالية ..

وهو في مؤخرة المدرج ووسط زحمة من الأصوات المتناثرة .. إلتقط سليم بعض الكلمات المنبعثة من المنصـة .. في مقدمتها " البراديغم أو الأنمـوذج عملي نظري عملي"، "الوضعيات المهنية "،"الوضعيات الممهننـة"، " البورط فوليو" أو "الملف الشخصي .. وهي كلمات لم يسبق له أن سمع بها أو صادفها طوال مساره الدراسي وحتى المهني ..لذلك فقد أحدثت زوبعـة ذهنيـة في فكره .. تعمقـت  حدتهـا من خلال بعض العروض المقتضبة التي عرضت عبر "الداتاشاو" والتي تميزت في شموليتهـا بخطـاب عال سيطــر عليه طابــع التنظيــر، ولم يــراع لا المقام ولا ظرفية الإستقبــال ولا الفوارق ولا النفسيــات .. إلى درجـة أن بعض المتدربيــن دخلوا في مرحلة من الشك والنفور .. وقد وصل إلى علم سليم لاحقا أن بعض الأساتذة المتدربين من الإعدادي  انتابته وقتها فكــرة التراجـع عن التكوين بالمــرة لولا أحد المكونيين الذي هـدأ من روعـه وطلب منـه الصبر والتحمل .. وفي ظل هذا اللقاء الإفتتاحي .. بدا جيــدا وبالملموس غيــاب التنسيــق والارتجال والعشوائيــة بين صفوف الطاقم الإداري والتربـــوي .. كما سجل تنــافر بين المكونيــن الذين أبــى البعض منهــم إلا أن يفــرض سيطرتـه المطلقة على المبــاراة بشكل جنوني، فيما البعــض الآخــر كان حضوره شكليـــا ليس إلا ...

وبين الفينــة والأخرى كان يغادر بعض المكونين المدرج تحت ذريعــة الرد على الهاتــف .. وقد كان ذلك دليلا على عدم الرضى والقبــول بسياسة الأمر الواقـع التي فرضها " المهاجمون الكبــار" .. نقطة أخــرى تم تسجيلها من لدن عدد من المتدربيــن .. هي أن برنامج أسبـوع الإستقبال  خصص له حيز للقيــام بجولات تفقدية واستطلاعية لمختلــف مرافـق المركز .. لكن تم تجــاوز هذه النقطـــة الأساسية التي كان من شأنها أن تعــرف المتدربين على مرافق المركز الذي سيقضــون فيه موسما من التكوين .. وربمــا أن هذا التجاوز كان له ما يبــرره من الناحية الواقعية.. على اعتبار أن وضعية المركز مزرية للغاية ولا يشتمل على أية مرافق لائقة تستحق أن تكون موضوع زيارة وتفقـد ...وحتى المرافق المتواجدة به على قلتها من داخلية وقاعة مطالعة وملاعب رياضية ..تعاني من الإهمال الملفت للنظــر ..

وفي ظل هذه العشوائية والرتابــة .. ستتعمق الأزمــة ببــروز مشكل "الوضعيات المهنية " الــذي أضحى يلوح في الأفــق .. والذي كان من أولى نتائجــه تكسير ما سموه ب "البراديغم أو الأنمــوذج عملي نظري عملي" ...لكن مفاجئة "سليم" خلال اليوم الأول على ما يتذكر، كانت تعرفه على الأستاذ المكون " عماد" الذي درس معه بنفس القسم نهاية تسعينيات القرن الماضي بشعبة التاريخ والجغرافيا برحاب كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، تبين له أن "عماد"بعد هذه السنوات، اشتغل كمدرس للتاريخ والجغرافيا في الثانوي التأهيلي، وتابع دراسته العليا  إلى أن حصل على شهادة "الدكتوراه" في الجغرافيا، مما أهله للإلتحاق بالمركز كأستاذ مكون .. هذا اللقاء المفاجئ، ذكر "سليم" بلقائه السابق بالأستاذة " منال" التي إلتقى بها صدفة بكلية الحقوق بالمحمدية بعد أن درسته مادة اللغة والتواصل غضون موسم 2012-2013 ، بعدما كانت زميلة له بثانوية الغزالي بتمارة أواسط تسعينيات القرن الماضي، وكذا كزميلة بكلية الآداب بالرباط بشعبة الأدب الفرنسي .. لقاء "سليم" على التوالي بالأستاذة "منال " والأستاذ" عماد" ، جعله يدرك بما لا يدع مجالا للشك، أن الحيـــاة رغم كبرها وصخبها ،فهي تبقى "قرية صغيـرة " .. كما أدرك وقتها عمق مقولة "الصدفة خير من ألف ميعـاد " ..لكن قبل هذا وذاك ، أيقـن أن "الدراسة" هي قنطرة حاسمة تفضي إلى الإرتقاء في السلم الإجتماعي ...وأن الإنسان كلما درس .. كلما انفتحت أمامه الأبواب الموصدة ...

 


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.