استقالة الحكومة واعضائها بفرنسا درس ديمقراطي لرئيس ولأعضاء الحكومة المغربية

تعتبر عملية التصويت في الانتخابات ضد الحكومات إجراء دستوري وآلية ديمقراطية بيد الشعوب للتعبير عن رفض سياسات الحكومات ودفعها إلى الاستقالة عبر تصويت علني تعبر فيه هذه الشعوب عن سحب ثقتها من الحكومة القائمة لكونها لا تعبر عن الإرادة الشعبية. وهذا السلوك هو عمق بيداغوجية الديمقراطية الحقة.
وتقديم الحكومات لاستقالتها هو سلوك عادي في الانظمة الديمقراطية لكونه أحد مكاسب البناء الديمقراطي السليم ،حيث ان تقديم الاستقالة من تحمل تدبير الشأن العام بعد نتائج العملية الانتخابية لا يتطلب مفاوضات سرية وتسريبات وإشاعات قد تمتد اسابيع وشهورا ، بل يتطلب ساعات قليلة لاتخاذ قرار الاستقالة لانه يكون في الاصل مؤطر سياسيا بالثقافة السياسية الديمقراطية كما يقول الان تورينALAIN TOURAINE

ولنا في التجربة الفرنسية الاخيرة نموذجا، حيث لم تتردد الحكومة الفرنسية ولو لحظة من تقديم استقالتها للرئيس الفرنسي بعد هزيمتها القاسية في الانتخابات البلدية التي عرفتها فرنسا هذا الأسبوع .ساعات قليلة من بعد اعلان هذه النتائج قدم رئيس الحكومة الفرنسي استقالته وتم تعيين رئيس حكومة جديد وتشكيل حكومة جديدة في 24 ساعة وفق المبادئ الديمقراطية حيث قبلت الأحزاب المنهزمة والاحزاب المنتصرة  نتائج صناديق الاقتراع  لتنكب بعد ذلك في عملية التقييم الموضوعي المبني على النقد الذاتي.

الحزب الحاكم بفرنسا الذي يقوده ماكرون أراد حكم فرنسا وتدبير السياسات العمومية بشكل عمودي وعدم إعطاء العناية للخطوط الأفقية في العلاقة بين الحكام والمحكومين لذلك كانت كلفة هزيمته باهظة أدت لفقدان حزبه اهم المدن الفرنسية الكبرى ،الامر الذي دفع رئيس الوزراء الفرنسي ادوار فيليب يوم الجمعة  تقديم استقالة حكومته للرئيس إيمانويل ماكرون الذي قبلها،رغم ان 57% من الفرنسيين ارادوا بقاءه  في منصبه، وفق استطلاع للرأي نشره معهد "إيلاب بيرجي ليفرو".

مباشرة بعد استقالة ادوار من منصبه عين الرئيس الفرنسي جان كاستكس رئيسا للوزراء ودعاه لتشكيل حكومة تأخذ بعين الاعتبار معطيات ونتائج الانتخابات وتحترم مبادئ التحالفات المبنية على أسس المنطق وليس على أسس المصالح.

انه درس فرنسي حقيقي في الديمقراطية فرضه تشكل خريطة سياسية جديدة بفرنسا تم الاحترام فيه منطق النتائج الانتخابية الأخيرة بعد انتصار مهم لليمين بـ  45.91% مقابل 40,57 % لليسار،وتقدم دال للجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة ب 6,84 % .

يستخلص من هذا كله ان الديمقراطية عند الأنظمة والشعوب الديمقراطية هي تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، انها ممارسة واعية للعقاب الشعبي الصارم للمؤسسات وللفاعلين المقتنعين بأن الديمقراطية التمثيلية هي التداول على السلطة، لكون الهزيمة او الانتصار في الانتخابات عند الحكومات الديمقراطية هي منظومة بيداغوجية ـ وهو ما ميز سلوك الحزب الحاكم المنهزم وسلوك الأحزاب المنتصرة  في الانتخابات البلدية الفرنسية، حيث ان الحزب الحاكم لم يقدم  تبريرات للهزيمة، و الأحزاب المنتصرة لم تلجئ  للتشفي بقدر ما تم التركيز على أخطاء الحزب الحاكم منذ توليه السلطة،كل هذا يرجع لمسالة واحدة هي صلابة التقاليد الثقافية الفرنسية الديمقراطية.

هذه التقاليد هي من يمنع تحويل الهزيمة او الانتصار في هذه الانتخابات الى حروب خطابية او لتهم متبادلة بين الأحزاب المشاركة في العملية الانتخابية كتدخل الدولة لهذا الحزب او ذاك، او الطعن في النتائج او الاحتجاج ضد وزارة الداخلية .كل الأحزاب المشاركة في الانتخابات قبلت بنتائجها المؤلمة او المفرحةـ، لاقتناع الأحزاب المنتصرة والمنهزمة ان المنتصر في الأول وفي الاخير هو النموذج الفرنسي الديمقراطي ، و مثل وقيم الجمهورية الفرنسية الخامسة، وبأن الممارسة الديمقراطية هي التي انتصرت في النهاية لتعزيز الرصيد الديمقراطي الفرنسي. لذلك ، لم نسمع اثناء اجراء الانتخابات او بعد اعلان نتائجها أي حزب من الأحزاب طعن في النتائج وفي مسار العملية الانتخابية، او اتهم اي جهاز من أجهزة  الدولة الساهرة  على الانتخابات ولا أي مس بمصداقيتها.

أقول هذا الكلام لان المغرب يعيش اليوم على إيقاع فضائح وكوارث بعض الوزراء، ورئيس الحكومة يعترف بضعف أداء حكومته وببلقنة أغلبيته الحكومية والبرلمانية وبسخط المواطن على أداء حكومته التي فضحت جائحة كورونا ضعفها وعدم انسجامها وعدم توفرها على رؤية استراتيجية لمغرب ما بعد كورونا، ورغم كل ذلك، فلم يتجرأ رئيس الحكومة لإعفاء أي وزير من وزراء حكومته الفاشلين الذين يرفضهم الشعب،ولم يتجرأ  أي وزير تقديم استقالته رغم كثرة الكوارث التدبيرية والحكاماتية التي تمارس من طرف بعض وزراء الحكومة الحالية.

الامر الذي يجعلنا نتسائل: لماذا لا تستفيد الحكومة المغربية برئيسها وبوزرائها وبزعماء احزابها من الدروس الديمقراطية الفرنسية؟ الا تستمد المرجعيات الدستورية والقانونية والسياسية لرئيس الحكومة ولأعضاء حكومته وللأحزاب السياسية بالمغرب فلسفتها العامة من دستور وقوانين وثقافة المدرسة الفرنسية؟ لماذا يقتبس الفاعل السياسي المغربي كل شيء من المدرسة الفرنسية الا التجارب الفرنسية في مجال الممارسة الديمقراطية.؟ لماذا لا يستفيد ساستنا ولو قليلا من الدروس الديمقراطية التي راكمتها مختلف التجارب الانتخابية العالمية والقبول بنتائج صناديق الاقتراع واحترام إرادة الشعب؟ وقبل ذلك احترام أجهزة الدولة لتظل مصداقيتها محمية وهيبتها قائمة؟

اعرف انها اسئلة حارقة، ومقتنع بأن الإجابة عنها ليس بالأمر الهين، لكون ثقافة الاعفاء والاستقالة من المناصب السامية والحكومية بالمغرب غير واردة في ذهن مسؤولينا لان هذا الصنف من الديمقراطية في النهاية هي ثقافة متأصلة وممارسات بيداغوجية قبل أن تكون قوانين ومساطر ونصوصا.
وعليه فسؤال الإعفاء والاستقالة من المناصب عند النخب السياسية المغربية مرتبط في العمق بمسألة الديمقراطية الحزبية المطروحة اليوم على الأحزاب المغربية والذي يجب ان الا  ينصب فقط علـى بناء احزاب ديمقراطية تستجيب للمعايير والشروط، ولكنه يجب ان يشمل مدى استجابة بنية الأحزاب لبيداغوجية ديمقراطية معبرة عـن الإرادة الشعبية لإقامة مؤسسات حزبية ديمقراطية تعمل لـصالح الشعب بكونها ممثلة له عن طريق الانتخابات ومسؤولة عن تدبير شؤونه وخاضعة لرقابته.

أستاذ التعليم العالي كلية الحقوق اكدال الرباط


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

تعليق 1
  1. Medbas يقول

    الامر بسيط لأن الحكومة المغربية تتكلف في تدبيرها ب30 في المائة على الاكثر ويبقى الامر كله لحكومة الظل .اذن من الذي يجب أن يقدم استقالته في حالة الفشل؟؟لايمكن ان نتكلم عن الديموقراطية بالمغرب بعد، طالما لم نتمكن من وضع دستور اكثر تحررا بل نترك الحكومات المنتخبة الحرية الكاملة في تسيير وتدبير شؤون البلاد.