المغرب يخطو نحو اقتصاد رقمي وسط مقاومة “الكاش”

بين طموح التحول الرقمي وواقع هيمنة النقود، يقف الاقتصاد المغربي في مفترق طرق حاسم. فبحسب دراسة استطلاعية حديثة أنجزتها شركة «فيزا» المتخصصة في تكنولوجيا المدفوعات الرقمية، تحت عنوان «قيمة القبول» (Value of Acceptance Study)، فإن السوق المغربية أظهرت جاهزية واضحة للانتقال نحو المدفوعات الإلكترونية، لكنها ما تزال غارقة في الاعتماد الواسع على التعامل النقدي.

تكتسي هذه الدراسة أهمية خاصة في ظل استعداد المملكة لاحتضان فعاليات دولية كبرى، من بينها بطولة «كان المغرب» نهاية سنة 2025، وهو ما يجعل موضوع رقمنة الأداءات والمدفوعات في قلب النقاش الاقتصادي. الدراسة شملت 260 شركة صغيرة ومتوسطة وصغيرة جدًا (TPME) موزعة بين الرباط والدار البيضاء ومراكش، ووضعت خريطة دقيقة لحالة السوق، كاشفةً عن الاستخدامات الفعلية للمدفوعات الرقمية، والعوائق التي تحدّ من انتشارها، والمحفزات التي قد تسرّع التحول المنتظر.

ومن بين أبرز ما توصلت إليه الدراسة، أن 60 في المائة من المقاولات الصغيرة والمتوسطة المغربية تعتمد المدفوعات الرقمية منذ أكثر من ثلاث سنوات، غير أن 42 في المائة منها لا تزال تعمل حصريًا بالنقد. هذه المفارقة، حسب معدّي الدراسة، تعكس “مرحلة انتقالية غير مكتملة” يعيشها الاقتصاد الوطني، إذ أضحت الرقمنة اليوم مؤشرًا رئيسيًا على التنافسية والفعالية في الأسواق.

 رقمنة تنمو… ولكنها تصطدم بالواقع

تشهد المدفوعات الرقمية في المغرب نموًا متسارعًا، يراه الخبراء فرصة واعدة لتمكين المقاولات الصغيرة والمتوسطة وتعزيز نمو الاقتصاد الوطني. وتكشف دراسة “فيزا” أن ثلثي التجار الصغار الذين شملهم الاستطلاع يفضلون المعاملات الرقمية على النقد، مؤكدين أن اعتمادهم هذه الوسائل ساهم فعليًا في زيادة عدد الزبناء ونمو المبيعات.

وتشير نتائج الاستطلاع أيضًا إلى أن معظم التجار الذين تبنوا الحلول الرقمية يخططون للاستثمار أكثر في تكنولوجيا الأداء مستقبلاً، ما يعكس التزامًا متزايدًا بخيار الرقمنة الذي لم يعد مجرد توجه تكنولوجي، بل أصبح رافعة اقتصادية حقيقية.

في مقدمة التقرير، أكدت شركة “فيزا” أن هدفها الأساسي كان فهم وتحليل المشهد المتطور للمدفوعات الرقمية في المغرب، من خلال رصد مزاياها والعوائق التي تواجهها وفرص النمو التي تتيحها. واقترحت الشركة مقاربة متعددة الأبعاد ترتكز على تحسين البنية التحتية، وتعزيز أمن المعاملات الرقمية، والاستجابة لانشغالات التجار والمستهلكين، مع التشديد على ضرورة تعزيز التعاون بين القطاعين العام والخاص لإطلاق الإمكانات الكاملة للسوق المغربية.

 تبنٍّ متزايد… لكن العقبات كثيرة

رغم الدينامية التي يعرفها المجال، فإن النقد ما يزال مهيمنًا على نحو 63 في المائة من إجمالي المدفوعات بالمغرب. الدراسة رصدت عدة معيقات تحدّ من انتشار المدفوعات الإلكترونية، أبرزها الرسوم المرتفعة (42%)، والاعتياد اليومي على التعامل بالنقد (38%)، إضافة إلى تكاليف تركيب وصيانة أجهزة الدفع (25%)، فضلًا عن تحفظ بعض التجار من التتبع الضريبي الذي يجعلهم يترددون في التحول نحو الأداء الرقمي.

ورغم ذلك، فإن إشارات التحول بدأت تلوح في الأفق. إذ إن 55 في المائة من الشركات التي لا تزال تعتمد النقد تفكر في اقتناء أجهزة للدفع الإلكتروني (TPE) خلال العامين المقبلين، رغم أن عدد هذه الأجهزة في المغرب لا يتجاوز 80 ألف وحدة فقط، مقابل أكثر من 2.5 مليون شركة صغيرة وصغيرة جدًا، ما يعكس حجم الهوة بين الإمكانات المتاحة والاحتياجات الفعلية للسوق.

 الثقة تنمو… والرضا في مستويات قياسية

في جانب آخر من الدراسة، لُوحظ تطور إيجابي في مستويات الثقة والرضا لدى التجار تجاه الحلول الرقمية. فبينما يعتبر 71 في المائة من المستجوبين أن التعامل بالنقد بات محفوفًا بالمخاطر (كالسرقة أو الاختلاس أو النزاعات المالية)، فإن الخوف من الاحتيال بالبطاقات البنكية بدأ يتراجع، حيث أكد 56 في المائة من التجار أنهم أصبحوا أكثر ثقة في المعاملات الرقمية مقارنة بالسنوات الماضية.

هذه الثقة المتنامية تعززها النتائج الاقتصادية الملموسة: 70 في المائة من التجار الذين تبنوا الأداء الإلكتروني سجلوا ارتفاعًا في رقم معاملاتهم، فيما لاحظ 64 في المائة زيادة في حركة الزبناء بعد اعتماد وسائل الدفع الحديثة. والأهم من ذلك أن 91 في المائة من التجار أعلنوا رضاهم التام عن تجربة الدفع الإلكتروني، وهو مؤشر قوي على أن رقمنة المدفوعات لم تعد مجرد تحديث للممارسات التجارية، بل أصبحت ركيزة من ركائز الأداء الاقتصادي العصري.

 نحو منظومة مالية أكثر اندماجًا واستدامة

خلصت “فيزا” في دراستها إلى أن المغرب يمتلك كل المقومات اللازمة ليصبح مركزًا إقليميًا للمدفوعات الرقمية، شريطة تسريع وتيرة الإصلاحات وتوسيع قاعدة التجار والمستهلكين الذين يعتمدون هذه الحلول. كما أوصت بضرورة الاستثمار في الثقة، والأمن السيبراني، والتربية المالية الرقمية، لتقريب المواطن والمقاول على حد سواء من الاقتصاد غير النقدي.

ورغم التحديات، فإن التحول جارٍ بالفعل. فمع استعداد البلاد لاستضافة تظاهرات دولية كبرى مثل “كان المغرب 2025”، تتجه الأنظار إلى قدرة المملكة على استثمار هذا الزخم في إطلاق ثورة مالية رقمية شاملة، تجعل من الدفع الإلكتروني ليس فقط وسيلة مريحة، بل رافعة اقتصادية واستراتيجية وطنية نحو مغرب رقمي أكثر شمولًا واستدامة.

المقالات المرتبطة

أضف رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *