في سياق استعداد البلاد لخوض استحقاقات تشريعية مرتقبة، ومع تصاعد حمى التهييء لاحتضان مونديال 2026، برزت ظاهرة لافتة وجديدة قديمة تتعلق باستغلال “التبوريدة” والمهرجانات الشعبية لأغراض انتخابية سابقة لأوانها، ما يطرح تساؤلات حقيقية حول الحدود الفاصلة بين ما هو ثقافي وتراثي، وما هو سياسي وانتخابي.
ضعف مالي وميزانيات “التبوريدة” بالملايين
معطيات حصلت عليها “بلبريس” تؤكد أن جماعات ترابية عديدة، بعضها يعاني من ضعف كبير في موارده المالية، خصصت مبالغ ضخمة تقدر بعشرات الملايين من السنتيمات لدعم جمعيات التبوريدة، تحت غطاء الاستعداد لموسم المهرجانات الصيفية.
في إقليم أزيلال وحده، رُصدت مبالغ تفوق 20 مليون سنتيم لفائدة جمعيات فروسية، دون احتساب الدعم الذي توفره المجالس الإقليمية والجهوية ووزارة الثقافة، إلى جانب اللوجستيك الذي تضعه السلطات المحلية رهن إشارة المنظمين، بالإضافة لضواحي الجديدة، وجهة الرباط سلا القنيطرة.
ورغم الرفض الشعبي الذي عبّرت عنه ساكنة بعض المناطق التي تعاني من العطش والعزلة، يصر عدد من المنتخبين على توجيه موارد الجماعة نحو “الديور الكبار” التي تحتكر المشاركة في التبوريدة، باعتبارها خزانا انتخابيا مؤثرا لا يمكن التفريط فيه، فعدم دعم هذه الأنشطة قد يعني الاصطدام بالأعيان المحليين، الذين ما زالوا يتحكمون في مفاتيح التأثير على الكتلة الناخبة، خاصة في الأوساط الفقيرة.
تحت ضغط هذا الواقع، يعمد عدد من رؤساء الجماعات إلى “ترقية” المواسم التقليدية إلى مهرجانات ثقافية معتمدة ضمن أجندة وزارة الثقافة، مما يتيح لهم الحصول على دعم رسمي، واستقدام فنانين وفرق “شيخات” تحظى بشعبية جماهيرية، في مسعى واضح لاستمالة فئة كبيرة من الناخبين المتململة من السياسة والسياسيين، لكنها حاضرة بقوة في سهرات الفن والموسيقى.
وهكذا تحوّل التنافس بين المنتخبين إلى سباق محموم على من يحجز أولا فنانا مثل أحوزار أو بدر أوعبي أو ميمون أورحو، ومن يُنزل “أفيش” المهرجان قبل غيره، في مشهد أقرب إلى حرب رمزية انتخابية تُخاض باسم الفن والتراث.
في المقابل، لم تقف ساكنة المناطق المهمشة مكتوفة الأيدي، بل خرجت في مسيرات احتجاجية على ما اعتبروه هدرا للمال العام في مهرجانات لا تعنيهم، في وقت يفتقرون فيه إلى الماء الصالح للشرب والطرقات والخدمات الصحية الأساسية، وقد شهدت دواوير في إقليم أزيلال قبل أسابيع حركات احتجاجية قطعت فيها الساكنة عشرات الكيلومترات مشيا على الأقدام نحو مقر العمالة، للمطالبة بالأولويات التنموية قبل الاحتفالات.
مراسلات على طاولة لفتيت
هذا الوضع المثير للجدل دفع في وقت سابق بالمنظمة المغربية لحقوق الإنسان ومحاربة الفساد إلى توجيه ملتمس رسمي لوزير الداخلية، عبد الوافي لفتيت، تلتمس فيه تدخلا عاجلا لوقف مظاهر الاستغلال الانتخابي لمواسم التبوريدة والمهرجانات، معتبرة ذلك خرقا صريحا للقانون التنظيمي المتعلق بالجماعات، ومسًّا خطيرا بنزاهة الانتخابات ومبدأ تكافؤ الفرص.
وقد حذّرت المنظمة في ملتمسها من تنامي ظاهرة استغلال جمعيات ووسطاء لتمويل هذه التظاهرات، فضلا عن استعمال آليات الجماعات الترابية ووسائلها اللوجستيكية في أنشطة انتخابية غير معلنة. كما دعت إلى إشراف العمال والسلطات المحلية على تنظيم هذه المناسبات، لضمان طابعها الثقافي الأصيل بعيدا عن التوظيف السياسي.
في السياق ذاته، أفادت مصادر متطابقة بأن تقارير واردة عن أقسام “الشؤون العامة” بعدد من العمالات والأقاليم استنفرت المصالح المركزية لوزارة الداخلية، بعدما رصدت تورط منتخبين وبرلمانيين ورؤساء جماعات في استغلال مواسم “التبوريدة” كمنصات تعبئة انتخابية غير مباشرة، سواء من خلال تمويل مباشر أو توزيع مساعدات غذائية ومالية على المشاركين في “السربات”.
التقارير نفسها، التي شملت مواسم بجهات الدار البيضاء-سطات، الرباط-سلا-القنيطرة، وبني ملال-خنيفرة، أشارت إلى تحركات لمرشحين مفترضين للانتخابات البرلمانية، بعضهم بصدد تغيير انتماءاتهم الحزبية، وآخرون يبحثون عن تزكيات جديدة في ظل بروز منافسين جدد.
أحد التقارير لفت إلى إنزال سياسي كبير لرئيس مجلس إقليمي بجهة الدار البيضاء-سطات، يستعد لخوض غمار الانتخابات بلون سياسي جديد، في حين يراهن رئيس جماعة أخرى بالإقليم ذاته، ينتظر قرارا من محكمة النقض بشأن عزله، على الظفر بمقعد إضافي في البرلمان، بعد ارتفاع الكثافة السكانية في منطقته وفق آخر إحصائيات السكان والسكنى.
وزارة الداخلية دخلت بدورها على الخط، حيث عمّم عدد من عمال الأقاليم مراسلات تحذيرية إلى رؤساء الجماعات تحثهم على عدم استغلال آليات ومرافق الجماعة في أغراض انتخابية، في إطار تعليمات مركزية تفرض رفع تقارير مفصلة حول أي شبهة استغلال انتخابي للتظاهرات الثقافية والرياضية المنظمة محليا.
في ظل هذه الأجواء، يبقى التحدي مزدوجا، بين الحفاظ على نزاهة المسار الانتخابي من جهة، وضمان عدم انزلاق المبادرات الثقافية والاحتفالية إلى مجالات التوظيف السياسي والانتهازي، خصوصًا في ظل الرهان الكبير على صورة المغرب في أفق تنظيم كأس العالم 2026.