بعد أيام قليلة من التعديل الحكومي الفرنسي، الترتيبات جارية على قدم وساق من أجل زيارة محتملة من الرئيس الفرنسي إلى المغرب، بعد فتور في العلاقات بين البلدين، نتيجة لسياسة فرنسا التي تلعب بوجهين اتجاه المغرب، بالنظر إلى صعود المغرب الإفليمي الذي ضيق مصالح فرنسا وهمش مساحتها الدبلوماسية في المنطقة.
وقد عبر الرئيس الفرنسي “إمانويل ماكرون” في سنة 2022 و2023 مرارا، عن عزمه ترتيب زيارة إلى المغرب، إلاّ أن المغرب ظلت تتجاهل رغبة الفرنسيين أحادية الجانب، ومع الإصرار على أنها بترحيب من المغرب، بقيت الدبلوماسية المغربية تتجاهل الاستقبال؛ إلى أن أكدت المغرب بشكل رسمي في شتنبر الماضي، أن زيارة ماكرون “ليست مدرجة في جدول الأعمال”.
وتأتي هته الطفرة في الدبلوماسية المغربية، بعدما أعاد المغرب ترتيب أولويات سياسته الخارجية مع الشركاء التقليديين، خصوصا بعد اتساع دائرة الدعم الدولي لملف الصحراء المغربية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية والجارة إسبانيا وألمانيا وإسرائيل، فضلا عن الدول الأفريقية التي انخرطت في دبلوماسية القنصليات، الأمر الذي عزز من قوة الطرح المغربي.
وقد أقر جلالة الملك محمد السادس بذلك “المبدأ” الدبلوماسي للمغرب، خلال خطاب وجهه للشعب المغربي، حين قال بأن ملف الصحراء المغربية هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، مع حت الشركاء التقليدين على تصحيح موقفهم من الصحراء والخروج من المنطقة الضبابية.
غير أن فرنسا كبلد متعجرف لم يتقبل إلى حدود الساعة قصور دوره في الساحة الدولية والإقليمية، بعد صعود قوى إقليمية ودولية، تؤشر على انهيار النظام الحالي الأحادى القطب بزعامة الغرب، وتشكل ملامح نظام عالمي جديد متعدد القوى والأقطاب؛ غير أن فرنسا ظلت مصرة على غلوها بينما حجمها يتقزم.
ونتجة لذلك ارتكنت فرنسا في خندق العداء للمغرب والإضرار بمصالحه في الأجهزة التنفيذية للاتحاد الأوروبي، وجيشت اعلامها للنيل من المغرب عبر إثارة الملفات الحقوقية واتهامه بهتانا بالتجسس، وفضلت المخابرات الفرنسية ابتزاز المغرب بعدما تأكد ذلك في وثيقة مسربة، عوض تجديد العلاقات واعادة ترتيبها في إطار التوازن، والمصالح المتبادلة دون الإضرار بها.
وقد أدى تحيين المغرب لأولوياته في الساحة الخارجية، أثرا كبير على الدبلوماسية المغرب، مما أكسبها ثقة ومصداقية دفعت العديد من الشركاء إلى الإسراع لتجديدها بما يخدم الطرح المغربي، بفضل السياسة الخارجية المغربية المبنية على تعدد الشركاء، الأمر الذي جعل من الهجمات الفرنسية ضد المغرب ضعيفة دون تأثير.
وبعد أن تأكد لفرنسا أن العداء للمغرب لن يجدي من المغرب نفعا، وفشل سياستها الخارجية في السنين الأخيرة، تبين بالملموسة أن فرنسا معزولة دوليا ودورها ضعيف في الساحة؛ الأمر الذي دفعها إلى تجديد مواقفها وتصحيح أخطائها، أولا مع المغرب عبر مجلس الأمن حين رافعت لصالح أطروحة المغربية وجددت تأكيدها المستمر على دعما لمشروع “الحكم الذاتي”.
تلاه بعد ذلك موقف السفير الفرنسي في المغرب “كريستوف لوكورتييه”، حين تسلم جلالة الملك أوراق اعتماده، بعدها مباشرة أكد دعم فرنسا للمخطط المغربي بشأن الحكم الذاتي في الصحراء المغربية، وإنهاء أزمة التأشيرات؛ في المقابل عين الملك “سميرة ستايل” سفيرة له بالديار الفرنسية، بعدما ظل المنصب الدبلوماسي شاغر خلال فترة الفتور والأزمة الصامتة.
وقد أظهرت هاته التحركات والأنشطة والمواقف المتبادلة ببن المغرب وفرنسا لصالح المغرب، أن هناك ترتيبات جارية في السر ستخرج إلى العلن في الأسابيع أو الأشهر القليلة المقبلة، استجابة لدعوات الملك من أجل الخروج من المنطقة الضبابية بشأن الوحدة الترابية للمملكة، واتخاذ موقف واضح من مغربية الصحراء.
وما عزز هاته الفرضية، هو استقبال المدير العام للأمن الوطني ولمراقبة التراب الوطني “عبد اللطيف حموشي”، لـ”نيكولا لورنر”، الذي يشغل منصب المدير العام للأمن الداخلي بالجمهورية الفرنسية، والذي يجري زيارة عمل إلى المملكة المغربية؛ لمناقشة وتقييم التعاون الاستخباراتي والأمني بين المملكة المغربية والجمهورية الفرنسية.
كما تدارسا آليات التنسيق العملياتي في القضايا الأمنية ذات الاهتمام المشترك، مع الاتفاق على أهمية الارتقاء بالتعاون الأمني والاستخباراتي، وتوسيع نطاق المساعدة التقنية والتعاون العملياتي بينهما، لضمن تبادل الخبرات والتجارب، وتعزيز الأمن المشترك، ومواجهة كل التهديدات والمخاطر المحدقة بالبلدين.
وعليه، فإن كل المؤشر تؤكد احتمال تحيين العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، وإعادة ترتيب المواقف والأولويات، بما فيها اتخاذ موقف واضح من مغربية الصحراء، والخروج من المنطقة الضبابية في تصريح وموقف رسمي من أعلى هرم الدولة الفرنسية، عبر برمجة زيارة رسمية، وتعزيز التعاون والشراكة وابرام مشاريع، بعضها في الأقاليم الصحراوية للمغرب، لما لا قنصلية فرنسية هناك.
فلا يمكن تصور زيارة دون استحضار قضية الصحراء واتخاذ موقف متقدم من الفرنسيين لصالح المغرب، خصوصا وأن الملك ضحا بعلاقاته مع الفرنسيين، من أجل تصحيح موقفهم رغم أنه كان لصالح مغربية الصحراء؛ إلا أن الملك تجاهل زيارة “مكرون” ومكالماته، قصد إجبار فرنسا على موقف رسمي واضح وعلني، وانتزاع مكسب من فرنسا وخلط توازنها مع الجزائريين.