قراءة في كتاب "تشريح السلطوية بالأنظمة الجمهورية العربية"

"تشريح السلطوية بالأنظمة الجمهورية العربية " هو الكتاب الذي اختارنا تقديمه لكم اليوم، و هو من تأليف الأستاذ والباحث جوزيف ساسون، الأستاذ المشارك بجامعة جورج تاون بالولايات المتحدة الامريكية، وأحد المتخصصين في قضايا السياسة والاقتصاد السياسي بالعالم العربي،له عدة مؤلفات في الموضوع .

يتكون الكتاب من مقدمة، و 7فصول، وخاتمة مع ملحق يتضمن كرونولوجيا بأهم الأحداث التاريخية التي عرفتها البلدان الجمهورية العربية الثمانية موضوع الدراسة (تونس ،ليبيا،العراق،مصر،السودان ،سوريا،الجزائر،اليمن)، إضافة إلى بيبليوغرافية غنية تضم أهم ما كتب حول الموضوع، وبجميع اللغات بما فيها تلك المكتوبة باللغة العربية، يعود إحدثها إلى سنة 2015، ثم هناك فهرست الأعلام . الكتاب موضوع باللغة الانجليزية، وهو موزع على 325 صفحة، صادر عن منشورات جامعة كامبردج سنة2016 .

إن هدف الباحث من كتابه هذا، و بحكم تخصصه، خاصة بعد موجة "الربيع العربي"، هو تشريح الأنظمة السلطوية لـ8 جمهوريات عربية، ابتداء من سنة 1952(ثورة الضباط الأحرار) إلى سنة 2011، منطلقا و مرتكزا على إشكالية محددة و هي: كيف استطاعت هذه الأنظمة البقاء في السلطة، و الحفاظ عليها كل هذه المدة، وماهي الآليات و الدعائم التي استندت عليها، و استمدت منها قوتها و استمراريتها، و لماذا ضعفت رغم أنها كانت صلبة، و قوية ومتماسكة بما فيه الكفاية، و هل هذه العوامل نفسها هي التي أدت إلى انهيارها.

تتفرع هذه الإشكالية إلى عدة أسئلة يطرحها الباحث في مقدمة كتابه و هي:

كيف تشتغل هذه الأنظمة ؟

كيف يعمل الحزب الحاكم في نظام متعدد (تونس/مصر)؟

كيف تراقب المعارضة ؟

كيف تقوم الأنظمة برعاية واستقطاب المعارضين والخصوم من بين العمال والطلبة والنقابات .

بنية السلطة وعملية صنع القرار داخل هذه الانظمة.

عبادة الشخصية ،حالات: صدام ،بورقيبة ، حافظ الاسد .

كيف تتعامل هذه الانظمة مع الازمات و القضايا الاقتصادية.

و الهدف كما يقول، هو تعميق فهمنا لما حدث بعد سنة 2011، حيث تبين بالملموس أن هناك صعوبة كبيرة في الخروج و التخلص من السلطوية .

يشير الباحث إلى أنه لن يستعرض بالدراسة جميع الأحداث التاريخية، ولكنه سوف يركز على بعض المحطات الاساسية والاتجاهات الحاسمة التي عرفتها الأنظمة السلطوية معللا و مفسرا اختياراته وسبب استبعاده لبعض الانظمة.

و فيما يتعلق بالمادة الخام التي اعتمد عليها في إنجاز هذا الكتاب، يشير إلى نذرة المصادر وغيابها، و لكنه يعوض عنها بالمذكرات السياسية للزعماء و المسؤولين على اختلاف درجاتهم و مستوياتهم: مذكرات رجال الدولة والوزراء و شخصيات المعارضة و المعتقلين السياسيين... ،محاولا الجمع بين مصادر من داخل النظام و أخرى من خارجه . فالحكومة التي خلفت الرئيس بنعلي، يضيف الباحث، رفضت فتح أرشيفها للعموم خوفا من اندلاع اضطرابات في البلاد لخطورة محتوياتها، بل قيل إنه تم حرق كمية كبيرة من الوثائق ببعض القطاعات الوزارية في تونس بعد الثورة، نفس السؤال يطرح حول أخطر ملف و هو مصير وثائق النظام في ليبيا، بيد من هي الآن؟.
يصرح المؤلف في مقدمة كتابه، بأنه يريد تعميق فهم السلطوية و الأنظمة القمعية التي تسود في هذه البلدان، و يعتبر بأن فهمها مقدمة ضرورية وجوهرية لإنجاح عملية الانتقال نحو الديمقراطية و الحرية، و يعزو خطأ تحليلات و توقعات بعض الملاحظين وخيبة أملهم حول مصير الثورات ونهاية الأنظمة السلطوية، إلى سوء فهم و عدم معرفتهم بطريقة، وأسلوب اشتغال هذه الأنظمة السلطوية . في هذا الصدد يستحضر المؤلف الدروس المستخلصة من تجارب بلدان أروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية، حيث استمرت السلطوية رغم إطلاق مسلسل الانتقال الديمقراطي .لذا ركز على ضرورة دراسة وتحليل أسلوب الاشتغال الداخلي لهذه الأنظمة

و تعود الأهمية الخاصة لهذا الكتاب إلى اعتماده، دائما حسب المؤلف، على 120مذكرة(مذكرات بعد الثورة) لدراسة 8جمهوريات . تعطي هذه المذكرات نظرة عن الوضع المزري والخفي الذي كان سائدا قبل 2011.

يعتبر الباحث أن هناك تشابها كبيرا بين هذه الأنظمة الثمانية في ما هو أساسي و مختلف في غيرها .

هذا الكتاب يكتسي أهمية خاصة بالنسبة للباحثين في العلوم السياسية، هو اعتماده على المذكرات السياسية كمصدر من المصادر "العلمية "الأساسية لدراسة بلدان العالم العربي بعد أن قام بتصنيفها و ترتيبها. هذه المادة "المذكرات السياسية" أهملت طويلا من طرف الباحثين و المتخصصين في دراسة الأنظمة السياسية للبلدان العربية .

محتوى الكتاب

سوف نقوم باستعراض أهم عناصر الواردة في مضمون فصول الكتاب كما أوردها المؤلف بنفسه،

يخصص المؤلف الفصل الأول لمعالجة المذكرات السياسية كمصدر من مصادر البحث لدراسة العالم العربي ،وهي المصادر التي أهملها غالبية المتخصصين في دراسة المنطقة، رغم الانتقادات التي توجه لها من حيث مصداقية معاوماتها .فتطرق إلى أنواع المذكرات السياسية و السير الذاتية، و علل أسباب انعدامها، وان وجود بعضها رغم قلته إمكانه مساعدتنا على فهم شخصيات كتابها، أكانوا زعماء، أو ناشطين أو رجال أعمال، أو معتقلين سياسيين سابقين.

أما الفصل الثاني فيخصصه للحزب الحاكم، و سلطة الحكم في بلدان ذات الحزب الوحيد . و الدور الهام الذي يلعبه الحزب في إدامة الأنظمة القائمة، إلا أن العلاقة بين الزعيم و الحزب و البيروقراطية تختلف من بلد لأخر .و لاحظ تداخل بين هيئات الحزب و أجهزة الدولة الأمنية.و قدد خصص للعراق حيزا مهما ،حيث يعتمد على الأجهزة الأمنية أكثر من الجيش.فالأجهزة الأمنية عرفت تضخما هائلا في هذه البلدان خاصة في العقود الثلاثة الاخيرة.

وفي الفصل الثالث، يركز المؤلف على نواة النظام السلطوي وهم العسكر(الجيش)، حيث كان عاملا فاعلا وحاسما منذ مرحلة الاستقلال في كل المحطات. فالعسكر هم نواة، و قلب الحياة السياسية باستثناء تونس الذي حيد فيها الجيش منذ البداية. كما أن النزاعات والحروب ساعدت في بقاء العسكر في قمة السلطة وجمع الشعب حولهم .و يلاحظ أن الجيش لم يكونوا دائما على تفاهم و انسجام فيما بينهم.فصدام هو الوحيد الذي لم يكن عسكريا و استطاع اخضاعه لسلطته، في توليفة فريدة، إذ جمع بين الحزب و الجيش و الأجهزة الأمنية، مما مكنه من مواجهة أي تهديد.و لاحظ بأن الجيوش الإيديولوجية أكثر إخلاصا من غيرها.

وفي الفصل الرابع يؤكد فيه على الدور الذي تقوم به أجهزة الأمن السرية، وهي حجر الزاوية في استمرار الأنظمة السلطوية، و قد لاحظ بأن جميع هذه الأنظمة بصفة عامة، تخاف الحركات الدينية. كما تكشف بأن الأنظمة مخترقة بالمخبرين، والذي يتزايد عددهم سنة بعد سنة .
ويتحدث هنا عن نقطة مهمة، وهي أن كمية المعلومات المجمعة هائلة جدا، إلا أنها لا تعني بأنها معالجة، و مستغلة بشكل جيد أو مستعملة بفعالية، مثال ذلك اغتيال أنوار السادات، يقول الباحث بأن المعلومات حول اغتياله كانت متوفرة لدى الأجهزة ولكن متابعة المعلومات كانت ناقصة و غير كافية.

اما الفصل الخامس فقد خصصه لموضوع اقتصاد و مالية الانظمة السلطوية، حيث لاحظ أن الحكام كانوا مهتمين بالبقاء في السلطة أكثر من اهتمامهم بشيء أخر . كما أنهم لم يكونوا مهتمين بوضع حد للفساد، إذ يؤرخ بأنه ابتداء من أواخر السبعينات بدأ الفساد يترسخ في الدولة، و المجتمع وتوطدت التحالفات مع النخب الاقتصادية والحكام. وقد ساعدت المداخيل الوفيرة في مكافاة الأنظمة لاتباعها،و قد أدى إلى تدمير الاقتصاد لأن الهدف كان هو إدامة الأنظمة لا غير.

و في الفصل ما قبل الأخير( السادس ) يحلل جوزيف ساسون شخصية الزعامة، و عبادة الشخصية بهذه الأنظمة السلطوية، ولاحظ أنهم يتقاسمون عددا من الخصائص، فبعضهم كان يعتقد بأنه يحمل رسالة نحو شعبه، وقد لعبت البطانة دورا مهما في هذا الصدد. حتى إن فشل خصومهم في اغتيالهم وإزاحتهم من السلطة عرز الثقة في أنفسهم و ضخم من شخصيتهم. و في نفس الوقت زاد من انعدام ثقتهم في الجميع، فهم لم يكونوا مخلصين لا لأصدقائهم او لأتباعهم، بل حتى تجاه من ساعدوهم. فقد تغيروا كثيرا مع الزمن . وقد لاحظ أن هذا العنصر لم يعطيه الباحثون ما يستحق من أهمية.،و يستحضر ديوان محمود درويش"كتاب الجلوس".

أما الفصل السابع فكرس لمصير هذه الأنظمة بعد ربيع 2011، هنا يلجأ الباحث إلى إجراء مقارنة مع بلدان أخرى مشابهة لفهم هذه الصيرورة .و هنا يعالج 3 واجهات للانتقال : الحكامة وعلاقة الدولة بالدين، القضايا الاقتصادية والفساد، ومواجهة الماضي وكيفة التعامل معه.كما يخصص حيزا مهما للحالة العراقية بعد سنة 2003 كحالة نموذجية لما بعد السلطوية.

إن الدروس التي يستخلصها من المقارنة هو أنه عندما لا تواكب التغيرات السياسية أثار اقتصادية جوهرية، فإنه يبقى هناك خطر التراجع على المستوى السياسي، فالمصالح و الامتيازات يمكن أن تعود لتسيطر، وتمسك من جديد بالسلطة . فالانتقال الحقيقي لا يمكن أن ينجح إلا إذا كان هناك تصالح مع الماضي.

إن آلام الماضي بعد سنوات من الاستبداد والطغيان لا تمحى بل تبقى مؤثرة ،لذا لا بد من دراسة وفهم هذه الانظمة، فهي أنظمة معقدة. لذا يطالب الباحثين باستعمال المذكرات السياسية، والسير الذاتية في تحليلهم لبلدان العالم العربي، وذلك في انتظار الإفراج يوما ما عن ارشيف الانظمة.

و في ختام الكتاب يطرح عدة معضلات أهمها النقاش الكبير بين علماء الاقتصاد، وهو أليست الدكتاتورية مفيدة للشعوب على المستوى الاقتصادي والاجتماعي؟ فالدكتاتوريون أدخلوا إصلاحات مهمة على مستوى التعليم و تحديث المجتمع؟؟؟

إن الانتقال يظهر أنه غير آمن، و إن الطريق مازالت طويلة، وأن الانتقالات الديموقراطية تكون أحيانا عنيفة، وطويلة الأمد، فدراسة و فهم الظاهرة السلطوية خطوة مهمة في تحقيق هذا الانتقال الديموقراطي.


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

تعليق 1
  1. nasser يقول

    مبادرة طيبة بهذه المناسبة احييكم عليها
    ارجو ان يقتدوا بكم باقي المواقع و يفردوا للثقافة الجادة مكانتها