الحركة النقابية والنزاعات العمالية الكبرى في المغرب ما بين 1956-1996-

إعداد الباحث راجي علاء الدين

 اعدت هذه الاطروحة تحت إشراف الأستاذ احمد بوجداد و قد تشكلت لجنة المناقشة من الأستاذ احمد بوجداد رئيسا وعضوية كل من الأساتذة:ذ.عبد الله ساعف،و احمد بنكيران و امحمد الداسر و عبد الرحيم المصلوحي.

تعتبر هذه الأطروحة من الأعمال الجامعية الجادة التي نوقشت خلال السنوات الأخيرة بالجامعة المغربية،والتي رصدت عبر سنوات طويلة من البحث و التنقيب ، التاريخ الاجتماعي بالمغرب ،من خلال التركيز على دراسة الحركة النقابية والنزاعات العمالية الكبرى .

و تتضمن الأطروحة ملاحق و جداول مهمة تقدم كرونولوجيا كاملة بالنزعات العمالية طيلة الفترة المدروسة،إضافة إلى وثائق أخرى.

نظرا لأهمية العمل،و من اجل اغناء البحث العلمي،و نشر معرفة علمية رصينة، اخترنا تقديم ملخص لهذه الأطروحة التي نتمنى أن يتم طبعها بعد تحيينها، حتى تعم الفائدة.

 

 بعد مرور خمسة عقود على قيام حركة نقابية مغربية مستقلة،تبرز الحاجة لرصد أهم محطات الصراع الاجتماعي ومساءلتها، من خلال استرجاع التاريخ الاجتماعي، والتأريخ للفئات العمالية،فهناك حركة للتأريخ إلا أنها لا تعكس حركية المجتمع بكيفية متخصصة ودقيقة،خصوصا أن تاريخ الطبقة العاملة هو جزء من التاريخ الاجتماعي وبالتالي جزء من تاريخ الوطن.

ورغم أن بعض الأبحاث والدراسات الأكاديمية تناولت النزاعات العمالية بالمغرب،فإنه يغلب عليها المقاربة القانونية والإحصائية،لذا يهدف هذا العمل إلى تقديم دراسة لحركة اجتماعية ورصد وصفي تحليلي وتوثيقي لأهم صراعاتها خلال مرحلة تاريخية اجتماعية وسياسية من تاريخ المغرب الحديث.

وسيحاول هذا الموضوع الإجابة عن التساؤل المركزي الآتي :

  • إلى أي حد ساهمت النزاعات العمالية في تشكيل آلية للتوازن سواء داخل الحقل النقابي من خلال دفع القوى الاجتماعية إلى تجاوز الصراع والتصادم وفسح المجال للتكيف والحوار،أو داخل الحقل السياسي بتهيىء المناخ لإجراء إصلاحات سياسية وبلورة التوافق بين الفاعلين ؟
  • ويرتبط بهذا السؤال المركزي أسئلة فرعية أخرى:
    • ما هو المحيط السوسيو-الاقتصادي - السياسي الذي اندلعت في إطاره النزاعات العمالية؟
    • وكيف استطاع الشركاء داخل الحقل النقابي تكييف تصوراتهم ومواقفهم داخل واتجاه النزاعات العمالية ؟
    • وهل تعتبر النزاعات العمالية رد فعل على قرارات ترتبط بمصالح الفئات العمالية أم أنها مجرد تعبير سياسي للقوى السياسية المعارضة ؟
    • وهل ساهمت النزاعات العمالية في تقوية النقابة وتحسين الوضعية المعيشية والمهنية للفئات العاملة، أم أدت إلى تراجع يضعف النقابة ويقلص من حجم المكتسبات التي سبق الإحراز عليها ،وبالتالي تقوية الدولة وأجهزتها ؟
    • كيف يتم تصريف التناقضات والمواجهات ؟ وكيف يتم التخلص والخروج من مآزق إيجاد آليات للتوفيق والإدماج ؟
  • وبخصوص تحديد الفترة الزمنية ما بين 1956 و 1996، فان ذلك يعود الى تاريخ دخول المغرب مرحلة جديدة من تاريخه السياسي والنقابي ،إضافة الى انه إلى البداية الحقيقية للاتحاد المغربي للشغل كأول مركزية نقابية مغربية مستقلة.

كما أن التوقف عند حدود سنة 1996،فيرجع الى اعتبارات موضوعية ومنهجية،الأولى ترتبط بتشكيل اتفاق فاتح غشت 1996 كأول اتفاق في تاريخ المغرب يجمع بين الأطراف الرئيسية في علاقة الإنتاج ( الدولة،أرباب العمل،المركزيات). وجاء تتويجا لإطلاق السلطات العمومية بشكل مكثف منذ بداية عقد التسعينات لدينامية الحوار الاجتماعي.أما بخصوص الاعتبارات المنهجية فترجع إلى الضرورة احتفاظ الباحث بمسافة زمنية كافية،تكون خلالها ملامح  النزاعات قد اتضحت بشكل أكثر دقة.

إن استخدام مفهوم الحركة النقابية سيعتمد مقاربة الظاهرة النقابية كحركة اجتماعية من خلال وضعها وسط سياق محيطها العام،كما أن استخدام مفهوم النزاعات العمالية سيركز على النزاعات العمالية الكبرى، ونقصد بها نزاعات الشغل الجماعية التي تتحول أساسا إلى شكل إضرابات سواء داخل القطاعين الخاص أو العام.

أما فيما يخص المعايير المعتمدة لاختيار نماذج النزاعات العمالية الكبرى فهي كالتالي :

  • حجم التفاعلات التي ولدها النزاع عبر مختلف مراحله، سواء على مستوى المؤسسات الوطنية أو الدولية.
  • أهمية الملف المطلبي وقدرته على تعبئة عدد كبير من العمال أثناء النزاعات.

3-حجم النتائج و الآثار المترتبة عن النزاع، و تأثيرها على التوازنات القائمة بين المشغلين والفئات العاملة.

اعترضت هذا العمل صعوبات وعوائق تتعلق أساسا بالمصادر الأساسية لهذا النوع من البحوث.فهناك مجموعة من العراقيل تحول دون الحصول على المعطيات والوثائق اللازمة من اجل معرفة عميقة و إلمام حقيقي بالأحداث. فالمركزيات النقابية لا تعتني بالقدر الكافي  بأرشيفها وقلما تحتفظ بوثائقها كاملة . كما تحيط البعض الآخر بالسرية والكتمان، خصوصا فيما يتعلق بالجانب المالي. و حذر بعض المناضلين النقابيين من الكشف عن أسمائهم.

أما بالنسبة للحصول على المعلومات والوثائق المتوفرة لدى الإدارات العمومية، فمن المفارقات الغريبة أن عددا من الدراسات تسير في نفس السياق، أعدها باحثون أجانب خلال عقود سابقة تمكنوا من  الحصول على أرشيف ووثائق ومعطيات مهمة  تهم الحركة النقابية. في حين يبرر عدم تسليم بعض الوثائق إلى الباحثين المغاربة، إما بعلة المحافظة على السر المهني تفاديا لهروب بعض الشركات الأجنبية ! أو استحالة تقنية متعلقة بوضع الأرشيف .

ويجدر التساؤل هنا حول إمكانية الوصول إلى حلول إذا كان الباحث يتعذر عليه الحصول على المعطيات الأساسية المتعلقة بالأحداث؟

وقد لعبت العلاقات الشخصية و المساعدات التي قدمها لي بعض المسؤولين ، سواء داخل الإدارة أو داخل المركزيات النقابية أو داخل  " الاتحاد العام للمقاولين المغاربة"، عاملا محفزا لإخراج هذا العمل المتواضع إلى حيز الوجود.

إن ضرورة تجاوز الصعوبات المطروحة، حتمت علينا الاعتماد على الصحافة الوطنية التي واكبت و أرخت للحياة اليومية،و ذلك طيلة سنوات الدراسة(من سنة 56 الى 96) خصوصا أن الصحافة النقابية ظلت تعاني تجزئ المنشورات وغياب الاستمرارية، فضلا عن المعلومات التي غالبا ما تكون شحيحة وجزئية أو غير موضوعية ومتحيزة.

إن الصحافة الوطنية نفسها رغم أهميتها تكتنفهـا عيوب ذاتية وأخرى موضوعية. وتتعلق الأولى أساسا بميولها نحو حزب معين أو حكومة معينة. وهذا يؤدي أحيانا إلى التكتم عن بعض النزاعات أو شن حملات دعائية لتمويه الحقائق وتشويهها. أما العيوب الموضوعية فترتبط بالرقابة التي تفرضها السلطات العمومية على الصحافة وترتب عنها أحيانا توقيف صدور بعض الجرائد. فضلا عن الوضعية المتدهورة للصحف داخل المكتبات العمومية، وعدم استشعار أهمية هذه الثروة الوطنية.

ولتجاوز النقائص التي تعتري الصحافة الوطنية والنقابية، حاولت تتبع النزاعات العمالية الكبرى عبر تصفح جرائد ذات توجهات مختلفة، بهدف معرفة قراءة كل طرف للنزاع وكيفية عرضه لأسبابه وخلفياته.

ونظرا لصعوبة اعتماد الفئات العاملة ضمن هذه الدراسة، لأسباب ترتبط من جهة ببعد الفترة الزمنية لبعض النزاعات، ومن جهة أخرى لغياب وثائق يمكن اعتمادها للوصول إلى معرفة الأطراف المعنية في كل نزاع من النزاعات المدروسة. فإنني اقتصرت على ما أنتجه الفاعلون المؤسساتيون من وثائق وأدبيات تتضمن أحيانا شهادات لأشخاص فاعلين بكيفية مباشرة في النزاع.

و قد استخدمت منهج المقارنة، فيما يتعلق بمقارنة وتحليل مضمون الخطابات والتصريحات والكتابات وكذا المعطيات والإحصائيات الصادرة عن مؤسسات دولية أو وطنية، ومحاولة تفريغها في جداول ورسوم بيانية فضلا عن مقارنة النزاعات العمالية الكبرى، بهدف توضيح تصورات و مواقف الفاعلين من هذه النزاعات، و تحديد آثارها على الحركة المطلبية.

في هذا السياق، ورغم التركيز على دراسة النزاعات العمالية الكبرى، حاولت تعزيزها بتقديم جدول لإحصائيات حول تطور النزاعات العمالية طيلة الفترة المدروسة إضافة إلى جرد مختلف النزاعات الواردة ضمن الصحافة الوطنية التي اعتمدتها في البحث، واستخراج جدول تحليلي لضبط الحركة الاجتماعية النقابية وإيقاعها.

استنادا إلى إشكالية الموضوع وما تفرع عنها من تساؤلات، فإنها تستلزم اعتماد أسلوب محدد في التحليل والدراسة انطلاقا من تقسيم الموضوع إلى قسمين اثنين:

يتعرض القسم الأول للفاعلين المؤسساتيين الرئيسيين في علاقات الشغل عامة و النزاعات العمالية بصفة خـاصة. أمـا القسم الثاني فيتناول تحليل صيرورة النزاعات العمـالية ومضمونها وآثارها.

يتناول القسم الأول من الدراسة الفاعلين المؤسساتيين الرئيسيين في علاقة الإنتاج عامة، والنزاعات العمالية بصفة خاصة (المركزيات النقابية وأرباب العمل، والدولة).

تتحكم في مواقف وتفاعلات هؤلاء الفاعلين مجموعة من المحددات،ويمكن تقديم أهم الخلاصات كالتالي:

  1. بالنسبة للمركزيات النقابية: تم اختيار ثلاث مركزيات شكلت أهم تنظيمات نقابية خلال الأربعة عقود الموالية لحصول المغرب على استقلاله ،وهي « الاتحاد المغربي للشغل(ا.م,ش,)» و« الاتحاد العام للشغالين بالمغرب(إ.ع.ش.م) » و« الكونفدرالية الديمقراطية للشغل (ك.د.ش) »،فبعد أن كان الاتحاد المغربي للشغل التنظيم النقابي الوحيد منذ تأسيسه بتاريخ 20 مارس 1955 ،توالت مجموعة من الانشقاقات ،بحيث ارتبطت ظاهرة الانشقاقات النقابية ،غالبا،بالصراعات والانشقاقات الحزبية.

فمساهمة الاتحاد المغربي للشغل في تأسيس ودعم حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أدى إلى لجوء حزب الاستقلال إلى تأسيس الاتحاد العام للشغالين بالمغرب .كما أن الصراع بين قيادة الاتحاد المغربي للشغل وحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خصوصا بعد اغتيال المناضل النقابي عمر بنجلون سنة 1975،دفع حزب الاتحاد الاشتراكي إلى تأسيس مركزية نقابية جديدة (ك.د.ش) بتاريخ 26 نونبر 1978  ،بهدف الحد من زعامة و هيمنة الاتحاد المغربي للشغل ،والعمل على تأطير العمال الرافضين لتوجهات قيادته.

وتحيلنا إشكالية التأسيس إلى ارتباط الانشقاقات النقابية كذلك بتصاعد وتيرة النزاعات العمالية خلال مراحل معينة من تاريخ الحركة النقابية المغربية،واتخاذها طابعا سياسيا متزايدا.

بحيث أدى تأسيس الاتحاد العام للشغالين بالمغرب إلى ارتفاع نسبة الإضرابات واتخذت طابعا سياسيا ابتداء من مايو 1960 وطيلة سنة 1961 . فالاتحاد المغربي للشغل ضاعف من الإضرابات احتجاجا على التخلي عن السياسة الاجتماعية لحكومة عبد الله إبراهيم،ولكن أساسا ضد قيام نقابة منافسة وضعت حدا للطابع " الشبه العمومي" للمنظمة.

كما أن الانشقاق عن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وتأسيس حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ترتب عنه منذ سنة 1977 اندلاع  إضرابات في قطاعات الفوسفاط والتعليم، وأدت إلى خلق نقابات جديدة وتوحيدها فيما بعد داخل (ك.د.ش).

ومن ناحية أخرى فإن البنية التنظيمية للمنظمات النقابية من خلال القوانين الأساسية للمنظمات النقابية تشير إلى ضرورة مشاركة مختلف الهيئات المكونة لها من خلال المجلس الوطني واللجنة الإدارية التي تعمل من الناحية النظرية على تنفيذ القرارات والتوجهات العامة.

إلا أن الواقع يبرز هيمنة الجهاز التنفيذي والتي تختلف تسميته من مركزية لأخرى (أحيانا يطلق على المكتب المركزي أو الكتب التنفيذي) بحيث يتجاوز الجهاز التنفيذي سلطاته التنفيذية،من خلال ممارسته السلطة الإشرافية على باقي الأجهزة النقابية وتحكمه في عملية اتخاذ القرار.

فبروز ظاهرة شخصنة وتمركز السلطة،يثير مسألة البيروقراطية النقابية وضعف مشاركة هيآت القاعدة في تحديد التوجهات العامة للمنظمات النقابية ،وبالتالي رفض القيادات الوطنية للمركزيات النقابية وجود تيارات معارضة داخل تنظيماتها،وتعمل على قمع المبادرات الهادفة إلى تغييرها أو مجرد إزعاجها .

وقد أدى الانشقاق النقابي وهيمنة القيادة داخل التنظيمات النقابية إلى حدوث صراعات نقابية وتضارب المطالب النقابية، وأحيانا تعترض الفئات العاملة المضربة على  الاتفاقات  التي تبرمها الهيئات النقابية الممثلة لها في المفاوضات.

وبالرجوع إلى المحددات المتحكمة في بلورة خطاب المنظمات النقابية ومواقفها وتشكيل تصوراتها حول العمل النقابي وعلاقته بالسياسة،يتضح من جهة كيفية تعاطت هذه المنظمات مع ثنائية التقليد والحداثة،بحيث تبرز من خلال الخطابات والوثائق التي تنتجها المركزيات النقابية حضور التقليد بأبعاده الوطنية التاريخية والدينية،ومن جهة أخرى رغم تصريحات بعض المنظمات النقابية كالاتحاد المغربي للشغل، بالابتعاد عن السياسة فإن الواقع يثبت ممارسة السياسة أحيانا بينما تؤكد( ك.د.ش)على العلاقة الجدلية بين النقابي والسياسي.

أما بالنسبة لمحدد استقلالية المنظمات النقابية اتجاه الأحزاب السياسية والدولة،فهناك بصفة عامة صعوبة لفك ارتباط الأحزاب السياسة بالمركزيات النقابية،كما أن هاجس سيطرة الدولة على الحركة النقابية يبقى حاضرا.

واستنادا إلى ما سبق فإن بعض النزاعات العمالية يطغى عليها الطابع السياسي وتتداخل فيه المطالب السياسية بالاقتصادية ومع ذلك فإن الطبقة العاملة تحاول ولو نسبيا زعزعة موازين القوى لصالحها من خلال عمليات المفاوضات والحوار.

ورغم ما تضمنته الترسانة القانونية من آليات للحوار الاجتماعي فإن تعطيلها وتميزها بالطابع الاستشاري وافتقادها للاستقلالية اللازمة لتمثيل الفئات العاملة،كل هذا أدى إلى محدودية أداء المركزيات النقابية لوظيفة التمثيل والتفاوض وغياب إطار لتنظيم الحوار الاجتماعي ،وبالتالي فتح المجال لتعقيد مشاكل العاملين في القطاعين العام والخاص،إضافة لتقليص إمكانيات تسوية النزاعات قبل حصولها بشكل معقلن وفعال.

وفي هذا الإطار فإن ممارسة المركزيات النقابية لوظيفة التمثيل والتفاوض طيلة أربعة عقود منذ الاستقلال، ظلت تخضع لمسطرة لا تستند إلى أي نص قانوني ، بحيث تبتدئ المسطرة لدى مفتشية الشغل ثم العمالة. وفي بعض الحالات تتدخل الوزارة المعنية بالنزاع،وإذا فشلت محاولة الصلح في إطار مفتشية الشغل،يتم اللجوء إلى السلطة المحلية التي تستدعي أطراف النزاع،وتقوم بمحاولة الصلح بحضور مفتش الشغل ومندوب العمال بصفة مستشار.

ورغم ضعف وغياب قنوات لتصريف النزاعات فإن الاكراهات والتحولات  الداخلية والدولية،بدأت تفرض منذ مطلع التسعينات على الحركة النقابية المغربية إعادة تأهيل نفسها لاسترجاع مصداقيتها لدى الشغيلة المغربية،وتأكيد قدرتها على النهوض بمسؤولية الشراكة اتجاه الفاعلين الاقتصاديين.

  1. بالنسبة لأرباب العمل المغاربة : يمكن تناول أسلوب تعاطيهم مع الحركة النقابية عامة والنزاعات العمالية بصفة خاصة من خلال التطرق أولا إلى تكوينهم ومواقفهم اتجاه الشغيلة ،وثانيا من خلال دراسة خطاب وممارسة " الفيدرالية العامة للمقاولات المغربية "  كأهم تنظيم استطاع القيام بدور بارز في الدفاع عن مصالح المقاولة والمقاولين، خصوصا بعد إصلاح  هياكلها وتوسيع بنيتها التمثيلية خلال التسعينات.

ويمكن تمييز التصنيفات المقدمة لأرباب عامة  بين صنفين أساسين:

البورجوازية التقليدية والمقاولين الشباب المثقفين. وإذا كانت المجموعة الأولى تحمل ثقافة اقتصادية تفضل العلاقات المهنية العائلية والزبونية وتدبير المقاولة ،كملك خاص وتسيير العمال بشكل سلطوي وأبوي كأطراف أقل شأنا. فإن الفئة الصاعدة من المقاولين الجدد " المثقفين" التي برزت منذ عقد الثمانينات تحاول فرض قيم اقتصادية وسياسية جديدة على المجتمع المغربي والتخلص من الرقابة التقليدية وهيمنة الدولة، إلا أن مساهمة هذه الفئات من المقاولين لا تصل إلى مستوى رسم حدود وطبيعة تدخل الفاعلين، لأن ذلك يدخل ضمن صلاحيات المؤسسة الملكية كفاعل مركزي في النظام السياسي المغربي.

وينبغي استحضار الموقف البراغماتي للمقاولين المثقفين،فإستراتيجية هؤلاء الفاعلين تقوم على أخذ مسافة اتجاه البنيات والميكانزمات الاجتماعية التقليدية ، وليست نوعا من القطيعة،فهناك صعوبة لاستبعاد طرق التفكير وأساليب العمل المهيمنة.

وتبرز مساهمة الفئة الصاعدة من المقاولين الجدد من خلال مساهمتهم داخل " الفيدرالية العامة للمقاولات المغربية " في تطوير العلاقات القائمة بين الرأسمال والعمل، وإرساء بنيات للحوار وإيجاد قنوات للتفاوض وتسوية النزاعات منذ مطلع التسعينات.

واحتلت الفيدرالية دور الشريك المفضل والرئيسي للسلطات العمومية، وممارسة دور ( سياسي ) من خلال المساهمة إلى جانب السلطات العمومية في مناقشة القرارات المتعلقة بالمقاولات والحركة الاقتصادية والتجارية، فدخول الفاعل الاقتصادي إلى حقل السياسة،اتخذ أشكال عديدة كما يبرز بقوة من خلال التفاوض حول القرارات المركزية كقانون النقابات والإضراب ومدونة الشغل.

إلا أن تدخل الباطرونا إذا كان مقبولا ومسموحا به في النقاش السياسي،شريطة أن يقف في مجال السياسة الاقتصادية والمقاولة،وعدم الانتقال إلى قضايا يمكنها أن تمس بتوازنات السلطة على وجه الخصوص.

وتتميز مواقف الاتحاد العام للمقاولات المغربية على مستوى القضايا الاجتماعية بميلها إلى التأكيد على التوجه الليبرالي في مجال الأجور والتشغيل،بحيث تشكل إحدى القضايا الأساسية ومحورا هاما للمطالب العمالية خلال مختلف مراحل الحركة المطلبية، وبالمقابل تميل المواقف الاقتصادية للفيدرالية  إلى المطالبة بمساندة ودعم الدولة وحمايتها.

  1. الدولة وعلاقة الشغل: تعمل الدولة على هيكلة المجال النقابي من خلال التدخل لضبط علاقات الشغل ووضع معايير وضوابط قانونية للفاعلين داخل الحقل النقابي،إلا أنه باستحضار موقع الملك كفاعل مركزي داخل النظام السياسي المغربي،فإن إنتاج مجموعة من المحددات القانونية لضبط تدخل الفاعلين في الحقل النقابي يتم تكييفه تبعا للتصور الملكي للمسألة النقابية.

فالمشرع المغربي اتجه منذ وقت مبكر من عهد الاستقلال للاعتراف بحق العمال في التنظيم النقابي،فصادق على الاتفاقية رقم 98 المتعلقة بحق التنظيم والمفاوضة الجماعية،وصدر ظهير 16 يوليو 1957 بشأن تأسيس النقابات،وترتب عن قدم وتشتت القوانين المنظمة لميدان الشغل والموروثة منذ فترة الحماية،تبلور فكرة جمع النصوص في مدونة واحدة،وتطلب الأمر عدة سنوات لإخراج مدونة الشغل في شتنبر2003 .

كما أن الدساتير المغربية ظلت تؤكد على إلزامية صيانة الحريات العامة بما فيها الحرية النقابية في التشريع والممارسة،وأسندت للمنظمات النقابية تنظيم المواطنين وتمثيلهم،كما يقر الدستور بحق الإضراب وتخصيص نسبة لممثلي المأجورين،الشيء الذي يمنح حضورا للمركزيات النقابية داخل البرلمان وإبداء مواقفهم تجاه السياسة الاقتصادية.

ويلاحظ أن النصوص القانونية ( ظهير 16 يوليو 1957 ، وظهير 15 نونبر 1958 المتعلق بحق تأسيس الجمعيات  ظلت تفتقر إلى معايير الشغل الدولية الكفيلة بتقوية الممارسة النقابية،وفي هذا الإطار ظلت بعض النقابيات المركزية تطالب لعدة سنوات بتوقيع السلطات العمومية على اتفاقيات من شأنها تدعيم العمل النقابي وتقويته،كالاتفاقية رقم 87 المتعلقة بالحريات النقابية ( تنص مثلا على أن العمال وأرباب العمل دون تمييز لهم الحق دون ترخيص مسبق في تكوين منظمات حسب اختيارهم، كما تنص على انعدام حق السلطات في الحل أو التوقيف عن طريق إجراءات إدارية...).

(يتبع)


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

تعليق 1
  1. Miniari يقول

    تحية بلبريس
    احييكم على هذه العودة الثقافية القوية
    كنا نعتقد انكم توقفتم عن نشر الاطروحات
    نتمنى لكم الاستمراريى