الباحث الموريطاني السعد بن عبد الله بن بيه يكتب... حول تطورات المسألة السورية

لا شك أن حدث سقوط النظام الأسدي في سوريا ، هو حدث كبير ومحرض على الكثير من التفكير، في واقع ومستقبل المنطقة بسب الترابط والتداخل بين دولها، ودون استسهال إطلاق الأحكام والتخرصات في المسألة السورية؛ فإن الحاجة ماسة لحيازة مجموعة من الأدوات التحليلية؛ تضمن مستوى من الفهم والاطلاع يجعلنا نقترب من حقيقة خلفية المشهد السوري اليوم.

● دعونا نتفق أن النازلة السورية أكثر تعقيدا وكثافة، و هي من المشكلات التي تترك الحليم حيرانا؛ بحيث لا يدري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا . فالأبعاد الداخلية والخارجية( الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ) لهذه المشكلة، متداخلة إلى حد مربك وكثيرة إلى درجة عدم القدرة على الحصر أو الإحاطة، هذا فضلا عن أبعاد تاريخية وثقافية؛ تتعلق بتجاور الأكثريات والأقليات، وتاريخ الصراع بين القوى الداخلية والخارجية ، وعقليات التناول الذهني والمسلكيات المتجذرة والراسخة، بل الأصعب أن هذه المشكلة تتجاوز كل ما تقدم من عوامل للتحليل الموضوعي إلى أبعاد روحية ودينية ماورائية فيتداخل فيها ما هو غيبي بما هو من عالم الشهادة ( تمكن مراجعة النصوص الدينية المؤطرة والاطلاع عليها لدى أتباع الأديان المختلفة في المنطقة وفي العالم، خاصة الادعاءات والأساطير الدينية الصهيونية، وبعض الطوائف المسيحية "الانجيلية" لتفسر لنا أبعاد لا تخطر أو لا تدخل في حساب المقاربات التي تروم فهم هذا الوضع البائس والخطير ) .
● واليوم في حين قد تجد البعض يظن أن هذا الحدث قد يمثل فصلا نهائيا للقصة ؛ فإن أغلب الباحثين - لاعتبارات غير قليلة- يعتقد بأن ما حدث هو مجرد فصل جديد، من فصول صراع طويل ومعقد وبداية تحول جيوبولتيكي منذر للمنطقة كلها .
ما يمكن أن يتفق عليه الجميع هو أمر واحد ( ربما هو السرور بجلاء نظام حَكمَ بقوة الحديد والنار دون شفقة ولا رحمة شعبه لخمسة عقود متتاليات ). أما ما وراء ذلك فيصعب الاتفاق ولو في الحد الأدنى، على أي فكرة مشتركة! فالأهواء متضاربة تماما، إذ الأسئلة الحقيقية تفسد سكرة الحلم!
- فأي نمط من التفكير وأي وحدة في الفكرة أو الرؤية، تحوزها اليوم مختلف المجموعات والنخب في الشرق العربي سوريا ولبنان...وغيرها .
ماذا عن أسئلة التعايش معضلة المعضلات، وسؤال الدولة، وسؤال التدبير العمومي، وسؤال الأسئلة رؤية العالم لدى هذه النخب!
■ في مجتمع متنوع عرقيا واثنيا ودينيا حد التناقض والالغاء، من أين وكيف تتأتي له ثقافة تنظيم الخلاف وقبول الآخر المختلف إلى آخر الأسئلة الخطيرة في مسألة التعايش، إننا نحتاج فهم التركيبة السكانية وتلوناتها العقدية؛ أي فكر وأي رؤية وأي ايديولوجيا يمكن أن تنظم هذا؟ وأي إطار جامع يجعل من الجزء يرى نفسه جزءا من الكل والعكس صحيح، ويفهم أن حقيقة وجوده مطمئنا آمنا تتعلق ضرورةً بأمن الآخر على نفسه وعلى معتقده وحقه الانساني في الوجود، وكل تمظهرات ذلك الوجود من عيش وتعبير ومشاركة!
أين هي النخب المتجاوزة والجامعة التي تمتلك فهما ووعيا عميقا لخصوصيات مجتمعها المتنوع جدا والمليء بالتناقضات حد التوتر والتنافر منذ عقود، أي فكرية وأية أدوات؛ يمكن أن تَحملها وتُعملها هذه النخب .
ماذا لو فطنا لحقيقة صادمة تشي بمدى التقوقع والانعزال؛ لدى بعض النخب المعبرة عن سوريا اليوم، بحيث تفشل في تمثلات الغنى الثقافي والتاريخي السوري في خطابها وسلوكها العام.
للمتبصر أن يدرك مدى محدودية تلك المرئيات لدى جحافل الأرياف والقرى، التي دخلت دمشق عن إدراك الواقع بكل ثقله واستحقاقاته ، فلا يستطيع فكر طائفي في العمق مهما كانت الطائفة ( أقلية أو أكثرية)؛ إعطاء الأمل في تجاوز عُقد ومخاطر الصراع، ولا يستطيع أي فكر تطيري وطهوري إعادة دمج سوريا في العالم بالشكل الصحيح والذي تستحقه سوريا، بل من المخاطر التي نخشاها؛ عزلها عن العالم الذي ظلت ولمدة قرون تمثل قبلة وعاصمة له في الميثولوجيا الحالمة حتى لدى الأوربيين أحرى العالم العربي والإسلامي!

- إن قلقنا كعرب وكمسلمين على مآلات المشهد السوري هو قلق مشروع ولا يأتي من فراغ، بل من مؤشرات غاية في الوضوح ، تفتح أعيننا على سيناريوهات تستحق التوقف والتجنب .
أولها سيناريو ، خروج الدولة السورية من شمولية وديكتاتورية الأقلية، التي وظفت الأفكار القومية واستعملت الطائفية للابقاء على مصالحها في الحكم والثروة والحظوة ؛ ودخولها في شمولية ظلامية جديدة وخطيرة، لأنها تستند في "تأويلاتها" إلى المقدس من النصوص، وبالتالي محاولة بناء شرعية تيوقراطية تنفي المخالف، وتستعيد مقولات لم تعد اليوم تعبر عن تطور المقاربة الفقهية الشرعية ولا فقه الواقع، فلكل متبصر أن يلاحظ دون عناء تلك الفوقية التي يصرح بها البعض، تجاه من يشاركه " حق المواطنة" من الطوائف المختلفة، وحتى مدى تأخرية النظرة المتعلقة بمفاهيم العدالة في توجيه الاتهام مثلا، وتحديد المسؤوليات ، والحق في الاختلاف ...الخ؛ مما ينذر بخروج الدولة السورية من العصر ، عصر المواطنة الايجابية وعصر القضاء وحقوق الإنسان والحريات الأساسية والبدهية.
إن هناك شرخا غير منظور - يمكن تلمسه- في فكر بعض المجموعات السورية اليوم يمثل أنماطا من التفكير المتضارب بين إيديولوجيات قاصرة ( تجد تعبيراتها في الفكر السلفي المتزمت والفكر الإخواني المتطرف والفكر الداعشي والقاعدي النافي للآخر وجودا ومعتقدا ) فضلا عن التناقضات ذات الخلفية الاجتماعية، بين فكر المدينة السورية ذات الانتماء المدني، والذي قد يمتلك قابلية في استعاب قيم العصر من جهة؛ والفكر القبلي العشائري والقروي، الذي يستسهل ويستهلك المقولات البسيطة، حول الدين والمجتمع والدولة والعلاقات ( الداخلية والخارجية) .
■ هل من سبيل للخروج من وهدة اللون الفكري والطائفي الواحد ؛ هل يمكن أن نجد مع هذا الحدث الكبير، فرصة تحييد وتطويق عناصر التعصب والتغلب والاستعلاء، وبالتالي النجاح في السماح لظهور كل الأفكار والتوجهات، بمعنى إعطاء أمل جديد في بعث التنوعية السياسية السورية التقليدية، التي كانت سائدة قبل أواسط الستينيات من القرن الماضي؛ على المستوى الحزبي والجمعوي فضلا عن الأفكار والتوجهات الحرة والمستقلة ، إن اعطاء الحق في حرية تشكيل هذه المنظمات واعطاءها حرية التعبير وباقي الحريات السياسية ...الخ ؛ قد يمثل أحد العناصر الأساسية التي قد تحد من مخاطر سيناريو الاسئثار بالسلطة والدولة، واحتمالية خطف المجتمع السوري وسجنه في مقولة وإطار وتوجه واحد، لا يرى الوجود إلا من خلال خرم محدود وضيق جدا هو ذاته هو ومركزيته الخاصة !
■ السيناريو الأخطر ، هو سيناريو ذوبان الدولة في ظل مشهد منقسم فكريا وسياسيا، ومتوزع الولاء بين مجموعات ومرجعيات عابرة للحدود، ولدول وكيانات ذات أطماع تاريخية وجيوبولتيكية في سوريا والمنطقة العربية بشكل عام، حيث تبرز مخاوف جدية تتعلق بتغذية صراع الإرادات، وفتح دورات من العنف التي تتلبس اللبوس العرقي والديني والطائفي وحتى القبلي لخدمة أجندات ايديولوجية وخارجية.
● من هنا أهمية فحص القدرة الفهمية والادراكية -وبالتالي الدور- لدى الفريق "المتغلب" الآن -بسبب الدعم الخارجي والتفوق التسليحي- في امكانية استعاب متطلبات فكرة إعادة بناء الدولة السورية، على أسس جديدة، يجد فيها المجتمع المتنوع دينيا وثقافيا وفكريا تعبيرا عن حقيقته المتنوعة تلك.
● إن نظرة فاحصة لمختلف الأفكار التي يعتنقها الفريق المتغلب الآن، والمسلكيات التي قام بها ، وتوقفا مع خطابه، يجعلنا أمام اهتمامات غير ذات بال تنذر بدرجة كبيرة من التقليدية و الاستهلاك العاطفي، والتجافي عن التطرق للقضايا المركزية؛ من قبيل أساليب مواجهة تفتيت مناعة الدولة ووحدة المجتمع، وتقادم بل وانهيار مؤسساته الرئيسية التنظيمية والمعنوية، والأهم الآن مسألة الأمن الوطني والقومي للدولة السورية، في ظل انتهاز القوة المحيطة وضعية الانهيارالداخلي .
■ الحقيقة التي لا تخفى على الجميع، بأن هذه المشكلة ليست ولا يمكن أن تكون هما سوريا صرفا، فانعكاساتها تطال أمن واستقرار ومستقبل المنطقة، لكن في الوقت الذي تهتم فيه القوى العالمية والإقليمية ( إيران تركيا اسرائيل) فإن هذا الاهتمام مختلف عن الاهتمام العربي ، فاهتمام هذه الدول يدخل في اطار تعظيم مصالحها وتسجيل النقاط ، بينما الاهتمام العربي بالمسألة السورية هو اهتمام يجب أن يرقى إلى مستوى المسؤولية التاريخية والأمن القومي لهذه الدول، فكل تلك السيناريوهات والمخاطر( ذوبان الدولة، أو تفتيتها، أو إستئثار قوى التطرف بها ، أو انكشاف أمنها القومي) سيمثل فتح أبواب من الشقاء على العالم العربي قبل غيره؛ فإذا تقررت هذه الحقيقة؛ فإن حزمة من الاجراءات غير قليلة منها الأمني والسياسي والاقتصادي، تمثل مسعى عربيا جماعيا منتظرا، بالتنسيق مع الداخل السوري المتنوع، ومع المنتظم الدولي خاصة الأمم المتحدة والدول الكبرى ذات المسؤولية المباشرة عن توازنات السلم والأمن في العالم، وهذا المسعى لا يمكنه إلا أن يكون سريعا وفعالا وغير تقليدي، وهو غير قابل للانتظار، خاصة في ظل اضطراب أوراق اللعبة الإقليمية مؤقتا، بينما تستقر نتائج اللعبة.

بقلم: السعد بن عبد الله بن بيه باحث بمجال العلوم السياسية


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.