دراسة سوسيو- سياسية.. النخب التكنوقراطية بالمغرب (1998-2018) فئة المهندسين نموذجا

عاد لواجهة النقاش العمومي بالمغرب مؤخرا موضوع النخب خصوصا بعد الخطاب الملكي الاخير الذي طرح  فيه مسألتين هامتين: ا- ضرورة اجراء تعديل حكومي. ب- تشكيل لجنة خاصة بالنموذج التنموي الجديد .مسألتان هامتان القاسم المشترك بينهما هو قضية النخب لدورها المركزي في تحقيق اي نوع من التنمية اولا. ثانيا دور النخب في انجاح او افشال التعديل الحكومي المرتقب اوالنموذج التنموي الجديد.

والحديث عن قضية النخب بالمغرب يفترض ضرورة التمييز بين النخب السياسية  وبين النخب التكنقراطية

تمييز قديم / حديث تكمنت اطروحة الطالب الباحث زهير الزنان في موضوع :

        النخبة التكنوقراطية بالمغرب - فئة المهندسين نموذجا- (1998-2018)

                    دراسة سوسيوسياسية.

أطروحة قاربت الموضوع من زاوية دراسية سوسيو سياسية، لكن من جانب واحد من معادلة النخب ألا وهو جانب النخب التكنوقراطية في مرحلة سانكرونية محددة ما بين  1998-2018  وتهم فئة معينة من النخب التكنوقراطية وهي فئة المهندسين التي عرفت أوجهها في عهد الملك الراحل الحسن الثاني وبالخصوص عهد مستشاره  عبد العزيز مزيان بلقيه الذي راهن كثيرا على هاته النخب لتدبير الشأن العام.

وقد نوقشت  هذه الاطروحة بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال- الرباط زوال يوم الأربعاء24 يوليوز 2019 تحت لجنة مركبة من الدكتور أحمد بوجداد  مشرفا ومن السادة:

  • الدكتورة أمينة المسعودي، أستاذة التعليم العالي بكلية الحقوق- الرباط-أكدال رئيسـة،
  • الدكتور عبد الله ساعف،أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق الرباط –أكدال،عضوا،
  • الدكتور عبد الرحيم منار اسليمي: أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق-أكدال،عضوا،
  • الدكتور أحمد التهامي: أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق- الرباط -أكدالعضوا،
  • الدكتور عبد الجبار عراش: أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق- سطات -عضوا.

بداية افتتحت الدكتورة أمينة المسعودي بصفتها رئيسة لجنة المناقشة أشغال هذا اللقاء العلمي، حيث رحبت بجميع أعضاء لجنة المناقشة، ونوهت بأهمية و راهنية موضوع الأطروحة، بعدها مباشرة أعطت الكلمة للطالب الباحث ليقدم تقريرا حول مشروع أطروحته.

وقد بدأ الباحث تقريره بتقديم أهمية البحث والإطار العام للدراسة وإبراز إشكالية الموضوع ومنهجية تحليله قبل أن يصل إلى  الخلاصات والاستنتاجات .

بداية،اعتبر الباحث الظاهرة النخبوية  ظاهرة من الظواهر الملازمة لكل المجتمعات البشرية كيفما كان مستوى تطورها ونظامها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، إذ أن جل المجتمعات التي عرفها التاريخ، شهدت أقلية عددية لها من الخصائص والميزات والموارد ما يؤهلها لتتصدر الحياة العامة وإدارة الشؤون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إذ تحتكر هذه الأقلية أدوار الزعامة والتحكم في المواقع القيادية الإستراتيجية داخل الدولة والمجتمع، وما يرتبط بها من امتيازات ووسائل الهيمنة والسيطرة على موارد وإمكانات السلطة ورموزها.

ولعل التطور التكنولوجي والثورة الصناعية التي عرفتها المجتمعات الغربية، كانت لها الفضل في ظهور ونشأت الظاهرة التكنوقراطية، فالتحولات الكبرى التي عاشها النموذج الرأسمالي الغربي، أفرزت نخبة جديدة في المجال السياسي، تمتاز بكونها تجاوزت استثمار المعرفة التقنية من منظور وظيفي، إلى توظيفها من منظور سياسي، حيث تتحول الخبرة التقنية إلى رأسمال سياسي وسلطة رمزية تساعد على الارتقاء في سلم المسؤوليات التنفيذية والتشريعية للدولة. ولعل التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفها المغرب تعتبر من بين أهم المحددات لظهور نخبة جديدة وضعت لنفسها حيزاً في الحقل السياسي والإداري المغربي.

ولقد أبرز الباحث أن دراسة وتحليل موضوع هذه الأطروحة، سيتم انطلاقا من محاولة دراسة المقاربات والأطروحات النظرية للنخبة التكنوقراطية عبر تحليل الدلالة المفاهيمية وتحديد الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه موضوع الظاهرة التكنوقراطية والتكنوقراط، والذي يجد في التبرير النخبوي لهذه الأقلية مجالا خصبا لتفاعل كل مكوناتها داخل الحقل السوسيولوجي والسياسي لدراسة النخب، ودراسة مسار السلطة و تدبير الدولة الحديثة انطلاقا من فاعلين جدد في الحقل السياسي، و بالتالي كيف ستؤول ممارسة السلطة من قبل التكنوقراط (المهندسين)، وتأثير هذه النخبة وتفاعلها في النسق السياسي،بدءا من رصد محددات نشأة وتطور هذه النخبة بالمغرب، وتحديد المنطق السياسي والاجتماعي لعملية إنتاجها، ورصد مدى درجة تحكم أدوارها في تعزيز تموقعها وتفاعلاتها في النسق السياسي المغربي لفهم شروط ودلالات مساراتها التي تطبع بنية هذه الأقلية.

عالجت هذه الدراسة موضوع النخبة التكنوقراطية في المغرب ما بين سنتي 1998 و2018،مركزة التحليل على فئة المهندسين، على اعتبار أن نخبة المهندسين نخبة تكنوقراطية  تشغل أسمى مناصب المسؤولية في الدولة ،وتؤثر في منظومة القرار العمومي وفي صيرورة النسق السياسي المغربي. ويستند تبرير هذه الحقبة الزمنية كونها تعتبر فترة عرفت تناميا وصعوداً قويا ووازنا للتكنوقراط المهندسين،على مستوى الجهاز الحكومي كوزراء، أو على مستوى الجهاز الإداري (مدراء لمؤسسات عمومية إستراتيجية، وعلى رأس الإدارة الترابية). فمنذ أواخر التسعينيات،عرف التكنوقراط  تناميا كبيرا وبشكل مرتفع نسبيا مقارنة مع السنوات السابقة لهذه الفترة ،التي تؤرخ للعهد الجديد منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش الذي نهج مقاربة جديدة لتسيير الشأن العام ترتكز على المفهوم الجديد للسلطة القائم على أسس تنموية، الشيء الذي استدعى اللجوء إلى  المهندسين ذات الكفاءة التقنية العالية، والاستعانة بهم من أجل تدبير ناجع للدولة والمجتمع، لاسيما مع انطلاق اوراش تنموية جديدة،و تزايد رهانات وتحديات العولمة والشراكة الأورومتوسطية،وتزايد الاهتمام بالقطاعات الاستراتيجية. فكل هذه العوامل ساهمت في بروز وصعود التكنوقراط و تموقعهم في أسمى المناصب القيادية والمواقع القرارية في الدولة بالمغرب، وبالتالي تأثيرهم في النسق السياسي والإداري المغربي، وهو الأمر الذي برر دراسة الموضوع خلال هذه الفترة الزمنية.

موضوع النخبة التكنوقراطية، اصبح يستقطب اهتماما متزايدا، و أهمية بالغة لاعتبارات شتى، نخص منها بالذكر ما يلي:

  • كون موضوع التكنوقراط يكتسي أهمية قصوى في الدراسات والأبحاث السياسية والتدبيرية، على اعتبار أن الظاهرة التكنوقراطية أصبحت محل دراسات أكاديمية من خلال مقتربات سياسية وسوسيولوجية وقانونية وغيرها، انطلاقا من تنامي دور هذه النخبة في المجتمعات المعاصرة وت.
  • أن النخبة التكنوقراطية تحتل مكانة خاصة داخل النسق السياسي المغربي، وداخل البناء الاجتماعي بشكل عام، تجعل منها إحدى المتغيرات الأساسية التي لا يمكن تجاهلها في كل محاولة لتحليل و فهم و تفسير الدينامية الاجتماعية والسياسية لتفاعلات التكنوقراط ضمن مجتمع نخبوي بامتياز.
  • ثم محاولة التعرف على العلاقة القائمة بين النخبة التكنوقراطية ونوعية التفاعل الذي يحصل داخل النسق السياسي والإداري المغربي من أجل بلورة وتحقيق التوازنات السياسية، وتوجيه التدخلات العامة للفاعلين على مستوى مختلف هياكل الدولة.
  • كما تبرز أهمية الموضوع كذلك في تصاعد دور المهندسين وولوجهم لمراكز قيادية في الدولة، ونظرا للمكانة التي أصبح يتميزون بها، على اعتبار أن أهمية مجال تدخل النخب التكنوقراطية في مجال التنمية، نابع من أهمية وطبيعة الأوراش والبرامج التنموية التي يراهن عليها المغرب. فدراسة وتحليل مختلف الإشكاليات المتعلقة بالنخبة التكنوقراطية ولاسيما فئة المهندسين بالمغرب، تكتسي أهميتها من الأدوار التي أنطيت بهذه الأقلية على مستوى تدبير وتسيير القطـاعات الحيوية ومرافق الدولة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، نظراً للخبرة والكفاءة التقنية التي يتميزون بها . وتبرز كذلك في تزايد تموقع المهندسين التكنوقراط على عدة مستويات، حيث أصبح في الفترة الراهنة استوزار المهندسين أمرا يكاد يكون عاديا ما دامت توجد حقائب وزارية تتطلب كـفاءة تدبـيـرية وتـكـوينا تـقـنـيا يـتـوافـق ونشـاط ذات القطـاع الــوزاري.  بالإضافة إلى أن تبني المغرب للمفهوم الجديد للسلطة الذي بني على مقاربات تنموية جعل المهندسين على رأس الإدارة الترابية والمؤسسات العمومية، والمديريات المركزية في الإدارة العمـومـية، الشـيء الذي يـسـتنـتـج معـه تبـوأ هـذه الأقـلـية لمـراكز ومناصب إستراتـيجـيـة متحكمة في صنع واتخاذ القرار تؤهلهم للتأثير المباشر والفعلي في السياسات العمومية. بل أن التكنوقراط أصبح تأثيرهم واضحا في النسق السياسي و الإداري المغربي، حيث يمكن القول بأنه أينما كانت السلطة وُجِد التكنوقراط.

إن الباحث حاول الإجابة عن الإشكالية الرئيسة للموضوع التي تنبني عليها هذه الدراسة، وتكمن في تحليل ظاهرة الصعود المتزايد للنخبة التكنوقراطية للسلطة وممارستها بالمغرب، والتي اعتبرها العديد من الباحثين كونها أقلية إستراتيجية ضمن خانة النخب، باعتبارها أصبحت قريبة من دوائر اتخاذ القرار السياسي، وتموقعها في أعلى مراتب مناصب المسؤولية في الدولة، وبالتالي فتح النقاش حول المحددات التي أدت بالدولة للجوء لنخبة الـمهنـدسيـن، أي مدى إمـكانـية القول بأن هـذا الوضع كان نـتاج ضرورة ظرفـية أم أن ذلك كان محل قناعة سياسية مسبقة،نتاجها هل فعلا الاختيار التكنوقراطي مرتبط بالتنمية أم بعامل سياسي، والقول بوجود قناعة لتحديث تدبير الدولة.

كما صاحبت هذه  الإشكالية مجموعة من التساؤلات أهمها:

  • المقاربات والأطروحات النظرية التي أسست لمفهوم التكنوقراطية وتناولت ظاهرة التكنوقراط وعلاقتهم بالسلطة السياسية.
  • نشأة وتبلورالنخبة التكنوقراطية بالمغرب؟
  • محددات نشأة وصعود النخبة التكنوقراطية بالمغرب ؟
  • مؤسسات إنتاج التكنوقراط المغاربة؟ وإلى أي حد ساهمت كل من المدارس المغربية والأجنبية في إنتاج النخبة التكنوقراطية ؟
  • مسارات هذه النخبة والخصائص والمحددات التي تتدخل في عملية انتقائها؟.
  • إلى أي حد يمكن للنخبة التكنوقراطية المغربية مواكبة الدور التغييري المفترض الذي تريد الدولة قيادته اليوم، وما هو دور المهندسين التكنوقراط في تدبير السياسيات العمومية وفي بناء الدولة والاستجابة لمتطلبات التنمية.

ولقد انطلق الباحث للإجابة عن الإشكالية الرئيسية للموضوع من عدة فرضيات :

  • الفرضية الأولى تنبني على أن بروز هذه النخبة و لجوء الدولة للتكنوقراط (خاصة فئة المهندسين) لتدبير السلطة، هو خيار استراتيجيومحل قناعة سياسية راسخة في دوائر الحكم ولعدة عوامل، بعدما كان تواجدهم في فترات سابقة(في عهد الملك الحسن الثاني) مرتبطا بالظرفية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي راكمها المغرب (خيارا ظرفيا). وارتباط التكنوقراط بالهاجس التنموي من أجل خدمة الدولة، ومن جهة أخرى من أجل ضبط التوازنات السياسية فيها، من منطلق أن عملية تحديث تدبير الدولة يمر عبر الانتقال من فاعلين تقليديين إلى فاعلين جدد (المهندسين-التكنوقراط ) في تدبير الشأن السياسي والإداري بالمغرب.
  • إن دراسة مسارات و ملامح(Profil)  نخبة المهندسين السوسيو-أكاديمية والمهنية وخلفياتهم الاجتماعية، توضح تواجد ثنائية البُنَى التعليمية فيما يخص عملية تكوين وإنتاج التكنوقراط المغاربة، في المقابل هيمنة المهندسين المتخرجين من المعاهد والمدارس الفرنسية الكبرى على أسمى الوظائف ومناصب المسؤولية في الدولة، والقول بتراجع دور المدارس المغربية في إنتاج التكنوقراط المغاربة.
  • إن سياسة التنخيب في المغرب ليست قائمة فقط على محدد الكفاءة والاستحقاق، بل ما زال الرأسمال العائلي والاقتصادي والشبكات الاجتماعية المحدد الأكثر حضوراً، والذي يتدخل فيعملية انتقاء التكنوقراط وولوجهم لدواليب السلطة، رغم التقييد  الدستوري للتعيين في بعض المناصب القيادية الاستراتيجية (على مستوى منصب وزير في المؤسسة التنفيذية، بالرغم من الاحتكام للشرعية الديمقراطية) ثم في منصب مدراء المؤسسات والمقاولات العمومية الاستراتيجية، وكذا على مستوى الإدارة الترابية التي ينعقد اختصاص التعيين فيها للمؤسسة الملكية.
  • إن تنامي ظاهرة ولوج المهندسين للحياة السياسية له أثر كبير نسبيا في ممارسة السلطة السياسية، و كذا في تحديث تدبير الدولة و تغير الفاعلين على هذا المستوى.وأن للنخبة التكنوقراطية إيديولوجية خاصة بها (الإيديولوجية التكنوقراطية)، وأن علاقة التكنوقراط بالسلطة هي علاقة تأثير وتفاعل متبادل.

أما في ما يتعلق بالمعالجة المنهجية للأطروحة، فقد اعتمد الباحث على مناهج بحث وتقنيات محددة فرضتها طبيعة الموضوع،حيث اقتضت الدراسة التي تناولت المسارات السوسيو مهنية والأكاديمية للنخبة التكنوقراطية المغربية، استعمال مناهج وتقنيات البحث التالية:

المنهج البيوغرافي، الذي تم توظيفه لفرز مجموع السير الذاتية لعينة البحث، و نمذجتها للحصول على معطيات مشتركة (بين جميع أفراد عينة الدراسة) توضح جميع مساراتهم وخلفياتهم، ومن خلال التقنية الإحصائية التي تعد أسلوباً رقميا لقياس وتحليل وتفسير المتغيرات التي تنبني على تقنية العينة.

ونظراً لصعوبة المسح الشامل لكل مكونات النخبة التكنوقراطية بالمغرب، تم الاعتماد على ثلاثة مستويات من التكنوقراط المهندسين الذين يتمركزون في قمم المناصب العليا في الدولة، والمتمثلة في المنصب الوزاري، و الإدارة الترابية (عمال و ولاة)، ثم مدراء المؤسسات والمقاولات العمومية الاستراتيجية، وذلك لكون هذه النخبة أثرت على مسار صناعة القرار العمومي والسياسي بالمغرب.

وتجدر الإشارة إلى أنه تم تعزيز المناهج البحثية لتحليل هذه الدراسة، بالاعتماد على منهج تحليلي وصفي ذو بعد تاريخي يروم  تفسير الظاهرة التكنوقراطية كميا ونوعيا وكذلك محاولة الكشف عن المتغيرات الوظيفية للتكنوقراط ودورهم في تدبير عمليات التنمية، والتي أدت بالدولة للجوء إلى المهندسين لتسيير الشأن العام، وما يمكن أن يقدمه المهندسون من قيمة مضافة للقطاع الذي يتولون تدبيره،كما مع إبراز مظاهر الخلل في البناء الوظيفي لدور هذه النخبة على اعتبارها إطارا أساسيا للتنمية، وإبراز تفاعلات التكنوقراط المغاربة في النظام السياسي والإداري المغربي، وتوضيح مظاهر التأثير والتأثر ما بين هذه النخبة والسلطة والمجتمع انطلاقا من دورها الوظيفي.

وبناءً على ما سبق، فقد تناول الطالب الباحث معالجة موضوع هذه الأطروحة من خلال محوريين رئيسيين:

حيث خصص (القسم الأول) لدراسة المقاربات النظرية والتحليل النخبوي للتكنوقراط، من خلال التطرق للتأصيل النظري للنخبة التكنوقراطية، وتحليل المقاربات التي تناولت ظاهرة التكنوقراط بالسلطة السياسية، انطلاقا من دراسة الأطروحات النظرية المؤسسة للظاهرة التكنوقراطية، وتحديد الدلالات العلاقاتية والمعرفية والمفاهيمية لمفهوم التكنوقراط ومحاولة تفكيك الإشكال الذي يعتريه سواء على مستوى النظريات العامة و كذا الممارسة ( لاسيما الممارسة المغربية والفرنسية)، بالإضافة إلى رصد علاقة التكنوقراط بالسلطة السياسية. هذا فضلا عن محاولة تشخيص وضعية النخبة التكنوقراطية في النسق السياسي المغربي، انطلاقا من محاولة تفكيك ومعالجة إشكالية تحديث تدبير الدولة عبر إبراز نوعية ومسار الانتقال من فاعلين تقليديين، إلى فاعلين جدد (المهندسين) في تدبير الشأن السياسي والإداري بالمغرب. وذلك من خلال التطرق لظاهرة صعود التكنوقراط خاصة فئة المهندسين الذين عرفوا تزايدا كبيرا، وتمركزا هاما على مستوى أسمى مناصب المسؤولية في الدولة ورصد علاقتهم بالسلطة السياسية، الأمر الذي تطلب معه توضيح محددات نشأة وتطور هذه النخبة، ثم التطرق لمصادر إنتاجها، وكذا إبراز بنية وحجم النخبة التكنوقراطية بالمغرب وتواجدها على مستوى المؤسسة التنفيذية والجهاز الإداري في الدولة.

في حين تناول (القسم الثاني) المسارات السوسيو-سياسية للنخبة التكنوقراطية بالمغرب (وعلى الخصوص فئة المهندسين)، عبر تحليل البنية السوسيولوجية لهذه النخبة ومختلف مساراتهم الاجتماعية والتعليمية ومآلهم المهني.ثم دراسة تفاعلات التكنوقراط- المهندسين في النسق السياسي والإداري المغربي، من حيث مدى تموقعهم على مستوى الساحة السياسية والأجهزة الإدارية والمشهد الحزبي بالمغرب، وذلك انطلاقا من تحديد خصائص التكنوقراط،  الذين يمتازون بعدة سمات، منها ما تتعلق بالسيمات القيادية والكاريزماتية، وأخرى مرتبطة بعامل الانتماء لهيئات دولة وشبكات اجتماعية. فضلا عن رصد المحددات التي تتدخل في عملية انتقاء التكنوقراط لولوجهم أسمى المناصب في الدولة، إذ غالبا ما تتأرج محددات الانتقاء - في هذا المستوى- بين الرأسمال العائلي والاقتصادي، الخبرة المهنية والرأسمال المعرفي، ثم المحدد السياسي.

وفي إطار تحليل تفاعلات التكنوقراط في الدولة والمجتمع، قام بمحاولة تقييمية للتجربة التكنوقراطية المغربية، عبر إبراز دور المهندسين (كنخبة تكنوقراطية) في تدبير السياسات العمومية والتنمية، سواء تدخلهم على المستوى القطاعي أو على مستوى تنزيل أوراش التنمية من لدن تكنوقراط الإدارة الترابية. ثم تسليط الضوء على تجارب بعض النماذج التكنوقراطية، حتى يتسنى إعطاء تقييم شامل لمكانة هذه النخبة في المشهد السياسي والإداري المغربي.

وأخير، وضح الباحث أن تحليل موضوع هذه الأطروحة لقد أسفر الكشف عن عدة نتائج و خلاصات تؤكد مدى صحة الفرضيات التي ارتكزت عليها هذه الدراسة، أهمها تتجلى في:

  • كون أن الخبرة التقنية تبرر مرة أخرى لسيطرة التكنوقراط على السلطة، فبناءً على نوعية التدخل التكنوقراطي في ممارسة السلطة وتدبير المجتمعات في أي نظام سياسي كان، يتضح وجود إيديولوجية خاصة بالنخبة التكنوقراطية باعتبارها متعلقة بشكل وثيق بالشأن السياسي، لاسيما عندما يتم اتخاذ لخيارات إيديولوجية.  كما أن طبيعة التدخل التكنوقراطي وكذا السمات والخصائص التي يتميز بها التكنوقراط الذين  يستمدون منها شرعيتهم لممارسة السلطة، هو ما يبرر تواجدهم في هرم النظام السياسي ومراكز اتخاذ القرار، وكذا تسييرهم لمختلف المؤسسات الإدارية والاقتصادية في الدولة. ومن هنا يمكن الحديث عن الشرعية التكنوقراطية، على اعتبار أن الخبرة التكنوقراطية تجسد آلية للسيطرة وممارسة السلطة السياسية، وهو الأمر الذي  يحيل على وجود علاقة جدلية بين التكنوقراطي / التقني والسياسي.
  • إن تراجع دور السياسي في الدولة أعطى مجالا لإضفاء الطابع التقني على الحياة العامة أو ما يعرف "بـتكنقرطة السياسة "( technocratisation de la politique) ،نظرا لتنامي دور المعرفة المتخصصة في تدبير الشؤون العامة، وبالتالي تعزيز الوظيفة التكنوقراطية في مقابل الوظيفة السياسية، إن هذا التراجع الملاحظ في المشهد السياسي المعتاد لصالح التقنيين، يؤكد على أهمية الأطروحة التكنوقراطية في أي نظام سياسي. بالإضافة إلى الخروج باستنتاج أساسي يتعلق بوجود تمفصل واضح بين أدوار وتدخلات كل من التقني والسياسي في نسق يحكمه التفاعل والتجاذب بين مختلف العناصر والفاعلين، انطلاقا من كون التكنوقراطية تُعتبر على أنها "الشرط السياسي" الذي تعطى فيه السلطة الفعلية إلى التقنيين الذين يطلق عليهم التكنوقراط.

ومن بين الخلاصات هذه الأطروحة هو: أنه من الصعب جدا فصل التقنية عن الإيديولوجية السياسية، وهو ما تبرزه عدت تجارب في الأنظمة السياسية للعديد من الدول، وتؤكد فرضية اقتران السلطة بالتكنوقراط، وأن شرعيتهم تكمن في امتلاكهم للسلطة الرمزية/المعرفية الخاصة بهم. وبالتالي القول بالانتقال من حالة تكنوقراطية السلطة إلى سلطة التكنوقراط. على اعتبار أن إضفاء الطابع التقني على ممارسة السلطة، ويشكل جزءا من ممارسات الحكم والتدبير الدولتي.

أما بخصوص الدلالة العلاقاتية للنخبة بالمغرب، يتبين وجود علاقة قوية بين التكنوقراط (المهندسين خصوصا) والسلطة السياسية، حيث تبرز هذه العلاقة في تواجد هذه الأقلية في مختلف مناصب المسؤولية على مستوى الحقلين السياسي والإداري، وتحكمها في مراكز صنع القرار وتوجيه السياسات العمومية، الشيء الذي  يكرس انخراط التكنوقراط في العمل والفعل السياسي ( L’action politique)، وأن هذه الجـدلـيـة ( السياسي – التكنوقراطي / التقني) مبنية على منطق تكامل الأدوار . فلجوء الدولة لنخبة التكنوقراط من أجل تدبير السلطة، هو اختيار استراتيجي ومحل قناعة سياسية راسخة في دوائر الحكم، لعدة أسباب بعدما كان اللجوء إليهم قبل ذلك لضرورة ظرفية متعلقة بالأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدها المغرب. وأن اللجوء إلى هذه الأطر والكفاءات التقنية من قبل الدول يجد شرعيته في امتلاك هذه النخبة لمقومات وخصائص تؤهلهم أكثر من غيرهم لتدبير المجتمع والدولة وفق مقاربة تنموية، على اعتبار أن مبررات اللجوء إلى التكنوقراط تأسست على دوافع إنمائية .

وإن من بين ما خلُص إليه في هذا البحث هو كون الأعراض الجانبية لتزايد اللجوء إلى هذه النخبة، تكمن في الاتجاه  نحو ضعف التمايز وسط الطبقة الحاكمة واحتكارها للرأسمال الرمزي الممنوح من المدارس الفرنسية الكبرى، وهو ما يوضح أن المؤسسات المغربية لإنتاج التكنوقراط قد ضعفت شرعية سلطتها الرمزية لصالح المدارس الفرنسية، ولم تعد مصدرا قويا لإنتاج التكنوقراط، لعدم تأثيرها في المسار المهني لخريجيها تأثيرا يجعلها تتبوأ مناصب سامية في الدولة، وهو ما تساهم فيه المدارس الفرنسية وتؤثر على حركة وتموقع التكنوقراط داخل الحقل السياسي والإداري المغربي، ويساهم في تعزيز موقعهم على مستوى تدبير السياسات العمومية.

وتجدر الإشارة إلى كون عملية تطعيم المشهد السياسي المغربي بشخصيات تكنوقراطية على مستوى الجهاز الحكومي، مرده إلى محاولة تحقيق بعض التوازن في تدبير القطاعات الوزارية، تجمع بين الرؤية التكنوقراطية والمعالجة السياسية للقضايا المطروحة. وبالتالي القول بوجود قوة تكنوقراطية لها مكانتها في النسق السياسي المغربي تعمل في إطار التوازنات السياسية فيما بينها وباقي النخب المغربية.

إن خبايا سياسة التنخيب في المغرب، قائمة على التأكيد على قاعدة استمرارية القديم أو ما يسمى بقوة الثوابت، انطلاقا من أن أغلبية النخب المغربية تسلم مشعل القيادة لجيل ينتمي لنفس المحيط، لتبقى الهيمنة تنحصر بيد فئة معينة وأفراد العائلة الواحدة، وهو الأمر الذي يوضح أن من بين العوامل التي تتحكم في عملية إنتاج النخب و توزيعها هو المحدد الاجتماعي والانتماء المجالي، على اعتبار أن غالبية التكنوقراط  تنتمي جغرافيا إلى المدن الكبرى ( فاس،الرباط، مراكش، الدار البيضاء)، وهو ما يدل على المكانة الرمزية والعلمية لهذه المدن التي تساهم في إنتاج نخب ذات رأسمال معرفي، مما يكرس هيمنة الطبقات الاجتماعية ذات الرأسمال العائلي والاقتصادي على المناصب السامية في الدولة، حيث يعد منطق التوزيع الجغرافي لنخبة التكنوقراط، تنميطا وتمثلاً للنخبة السياسية التقليدية التي شهدها المغرب منذ الاستقلال فالرأسمال العائلي والاقتصادي والشبكات الاجتماعية، تعد من أهم محددات الانتقاء  والتي أفرزت احتكار تكنوقراط ورثة البورجوازية التقليدية لأسمى المناصب والوظائف السياسية والإدارية في الدولة، ويؤكد أن نخبة التكنوقراط التي تستقر على أعلى مستويات السلطة ما هي إلا صورة منقحة وامتداداً للنخبة السياسية التي عرفتها الدولة البتريمونيالية، وتؤكد منطق توارث النخب، واستمرارية قوة المحدد العائلي في اختيار النخب المغربية. فالأصل الاجتماعي للتكنوقراط غالبا ما يتسم بالنمطية والنمذجة، نظرا لتكوينهم التقني الذي كان محل استثمار رمزي لعائلاتهم التي تنتمي إما للأسر المخزنية التقليدية العريقة، أو انحدارهم من الأسر البورجوازية ذات الرأسمال الاقتصادي.

وبخصوص تحليل المعطى المتعلق بمعدلات سن التكنوقراط على مستوى جميع مناصب المسؤولية التي شملتها الدراسة، تبيّن على أن هناك معدل سن نموذجي للتكنوقراط - على مستوى تواجدهم في جميع مناصب المسؤولية (يتحدد تبعاً لنوعية المنصب)، وأن غالبية التكنوقراط تتراوح أعمارهم  ما بين 50 و 57 سنة، أي أنها نخبة ناضجة، وهو ما يفيد استمرارية اللجوء إلى التكنوقراط  المهندسين الذين لهم تراكمات مهنية على مستوى الأجهزة الإدارية والسياسية في الدولة. وهذا لا يعني أن الدولة اليوم لم تهتم بالكفاءات الشابة، بل أن طبيعة المنصب يتحكم كذلك في انتقاء الكفاءات ذوي التجربة المهنية الذين عرف مسارهم المهني تقلد عدة مسؤوليات عليا.

إن  المسار السوسيو مهني للتكنوقراط رغم كونه مساراً نموذجيا وخطيا، إلا أنه ليس مساراً نهائيا، إذ لا يتعارض مع وجود مسارات مهنية خاصة، كما هو حال الجيل الثالث من التكنوقراط المغاربة الذي تميز مسارهم بعدم التمييز بين القطاع العام والخاص، حيث يعد تدحرجهم بين القطاعين، وبين مجالي السياسة والأعمال ركيزة أساسية لمسارهم.( وأن المسار التكنوقراطي  يتجلى في  دوارن التكنوقراط على أربعة مناصب عليا في الدولة هي ( الاستوزار- عامل أو والي بالإدارة الترابية- مدير مؤسسة عمومية استراتيجية- عضو في الديوان الملكي).

إن ولوج المهندسين لأسمى المناصب الإدارية والسياسية في الدولة يعزز دورهم في إعداد واتخاذ القرارات الإستراتيجية، لاسيما وأنهم يملكون آلية مراقبة المعلومات والقدرة على استعمال الوسائل التقنية اللازمة لوضع التوقعات، والتخطيط على المدى القصير، المتوسط والبعيد، وهو ما يدل على أن التكنوقراط لا يكتفون بتسيير الشؤون العامة تقنيا فحسب كما تدعي ذلك النظريات التقليدية، بل يشاركون أيضا في إعداد القرارات الحكومية نظراً لتموقهم على أكثر من مستوى في جل المناصب والوظائف الإدارية والسياسية في الدولة،حيث أن واقع العلاقات السوسيوسياسية يكشف عن الدور الكبير الذي بات يضطلع به المهندسون، لاسيما في مجال مواجهة الأزمات والمشاكل التي تفرض بتفصيلاتها على الواقع السياسي والإداري والاقتصادي والاجتماعي في المغرب.

ومن بين آخر استنتاجات هذا البحث، هو القول بظهور جيل جديد من التكنوقراط بانتماءات سياسية، وذلك نتيجة تفطن المؤسسات الحزبية بضرورة استعادة دورها كمؤسسة سياسية، وهو ما لجأت معه إلى عملية استقطاب الأطر التقنية في هياكلها، حيث أصبحنا اليوم أمام أحزاب تعمل على وظيفة التأطير السياسي للمهندسين التكنوقراط، عبر إنشاء هياكل تنظيمية موازية داخل المؤسسة الحزبية خاصة بالمهندسين، أو ما يمكن تسميته بتكتلات المهندسين. فتنامي اللجوء للتكنوقراط من شأنه أن يخلق نوعا من التوازن بين الفاعلين في المشهد السياسي والإداري المغربي ولا يمكن الجزم بوجود حالة تراجع دور السياسي وضعف هامش المناورة عنده، بقدر ما يمكن القول بوجود حالة من التنافس ين هؤلاء الفاعلين، بالرغم من تزايد قوة السلطة القرارية للتكنوقراط.

صفوة القول، ان الظاهرة التكنوقراطية أصبحت معطى بنيويا في الممارسة السياسية المغربية، تستمد جذورها من الثنائية الحاصلة على مستوى أنساق الشرعية ،وفي غلبة سلطة التعيين على سلطة الانتخاب والشرعية التمثيلية.

و أن من بين المؤاخذات التي تؤخذ على هذه النخبة التكنوقراطية، هي وضعها في أعلى المواقع القيادية ومراكز القرار العمومي قبل أن يبينوا عن كفاءتهم على أرض الواقع، و هو ما يحول دون إدراكهم للمشاكل الاجتماعية، الشيء الذي فتح مجالاً للنقاش حول تقييم الحصيلة العملية لهذه الأقلية الإستراتيجية، والمدى الذي يمكن معه لهذه النخبة أن تحافظ فيه على مواقعها في أعلى مناصب المسؤولية في الدولة؟ وهل بإمكانها الحفاظ على استمراريتها في فرض سيطرتها واحتكارها لمراكز القرار، أم أن وجودها وتمركزها سيتراجع على مستوى أجهزة الدولة؟.

فبالرغم من الإشادة بهذه الأطروحة، لم يفت السادة الأساتذة أعضاء اللجنة التأكيد على أن هذا العمل لم يكن يخلو من ملاحظات شكلا وموضوعا، يقتضي على الباحث أخذها بعين الاعتبار من أجل تجويد وتحسين القيمة العلمية لهذه الأطروحة.

وبعد المداولة قررت اللجنة قبول الأطروحة المذكورة أعلاه، ومنح الطالب الباحث زهير الزنان شهادة الدكتوراه في الحقوق بميزة مشرف جدا .


شاهد أيضا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.